الفصـل الأول
لسـتم أبناء إبـراهيم.. أنتـم أبناء إبليس
من كلام السيد المسيح إلى اليهود
لستم أبناء إبراهيم.. أنتم أبناء إبليس
في اليوم التاسع من شهر نوفمبر (تشرين ثاني) من عام 1977، أطلق الرئيس السادات من مجلس الشعب المصري مبادرته الشهيرة، ولا حاجه بنا أن نذكر تفاصيلها فقد نقلتها الأقمار الصناعية وأجهزة الإعلام العالمية إلى جميع أرجاء العالم، وكذلك فإنه لا حاجة بنا أن نخوض في تحليلها وتقييمها، فإن الحكم العادل بشأنها موكول إلى نهايتها، وما أعظم أسلافنا القدامى حين
قالوا : الأمور بخواتيمها .. وهذا هو أعف ما يقال بشأن هذه المبادرة وكفى.
غير أن هذه المبادرة قد فجرت مبادرات إسرائيلية ضخمة، في مجال الإعلام والسياسة معا، وراح العالم يصغي إلى مهرجانات خطابية، عربية وإسرائيلية، حيث يدلي كل فريق بمطالبه ودعاواه، شارحا أسانيده وحُججه.
وجاءت أولى المبادرات الإسرائيلية، في اليوم الحادي عشر من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1977، مباشرة بعد يومين من مبادرة الرئيس السادات، وكانت لا تزال ساخنة، تعوج وتموج في أرجاء العالم الفسيح… وكأنما كانت إسرائيل على موعد مع مبادرة القاهرة ساعة بساعة…
ففي عشية ذلك اليوم، تأبط، مناحيم بيجن رئيس وزراء العدو ذراع المبادرة المصرية.. وصعد بها إلى الأقمار الصناعية الأمريكية ليذيع إلى الشعب المصري خطابا يتحدث فيه عن موقف إسرائيل من مواضيع الساعة التي تستأثر باهتمام الرأي العام العربي والدولي على السواء…
وفي مثل وميض البرق أرسلت إسرائيل النص الكامل لهذه الخطاب إلى الأمم المتحدة، باللغات الثلاثة العربية والإنجليزية والعبرية، يوزع على أعضاء الأمم المتحدة كوثيقة دولية.
والمواطن العربي القومي، الحريص على حاضر الأمة العربية ومستقبلها، يجب أن ينصرف بالضرورة إلى دراسة خطاب العدو الإرهابي مناحيم بيجن، تاركا خطاب الرئيس السادات جانبا، فالخطاب الإسرائيلي يكشف عن مواطن الخطر العدواني الرهيب، على حين أن العربي يلهث وراء سراب لا يكاد يصل إليه حتى ينجذب إلى سراب جديد في الأفق البعيد.
وخطاب رئيس وزراء العدو، ليس طويلا ولا عريضا، ولكنه عميق الأغوار، عبأ فيه صاحبه كل ما يريد أن يقوله لمصر وللعرب، والرأي العام الدولي.. وفوق ذلك فإن مناحيم بيجن قد استخدم أقل العبارات والألفاظ لإبراز أضخم الأهداف، ومن كان له أذنان للسمع فليسمع، ومن كان لا يعجبه ما يسمع، فليشرب البحر… وهو غير بعيد، فهناك الأبيض وهناك الأحمر، وللناس فيما يشربون مذاهب.
وبكلمة موجزة، فإن خطاب رئيس وزراء العدو، يمثل في تعبير العصر الحديث "كبسولة" صغيرة تحتوي القضية الصهيونية برمتها، ومن هنا كان الاهتمام به أجدر وأجدى… وأصبح الواجب القومي يقتضي منا أن نقرأه بتدبر وروية وأن ندرسه بتعمق عميق، كشفا عن أغواره البعيدة وأباطيله المختلفة واحدة واحدة… والقضية الصهيونية ركام من الأباطيل اكتست مع الزمن والتكرار والإصرار رداء من الحق والحق بعيد عنها بعد النجوم والأفلاك.
ومما يحمل على الأسف أن المبادرة المصرية قد لقيت تأييداً أو تنديداً من الإعلام العربي بكل فنون الإعلام، شعراً ونثرا، وفقها وتاريخا، مما لا يقع تحت حصر، ولم تلق خطبة العدو الإسرائيلي جوابا ولا ردا.. وكان الرد الوحيد الذي ظفر به خطاب رئيس وزراء العدو، ما قالته إحدى الصحف العربية "برشاقة وأناقة".. إنه لا يستحق الرد "لأننا معنيون بالحاضر والمستقبل، وأن الماضي قد أصبح ملك التاريخ".
والعناية بالمستقبل، دون الالتفات إلى الماضي هي أول بوادر الهزيمة في المعركة… لأن القضية بالأصل، بيننا وبين إسرائيل تقوم على الماضي… وهذا الماضي هو الذي صنع الحاضر،… والحاضر هو الذي سيصنع المستقبل، ولكن في مزيد من الشر ما بعده مزيد…
والمواطن العربي، القارئ كل أدبيات الصهيونية، ولكل منطقيات سيدتها الكبرى أمريكا، يرى باستمرار وإصرار أن الصهيونية وأمريكا تناشدان العرب على الدوام نسيان الماضي بكل مآسيه، والتطلع إلى مستقبل ينعم بالإزدهار.
وقد كانت على الدوام مناشدة الاستعمار إلى جميع الشعوب المناضلة لتحقيق حريتها وسيادتها، التخلي عن الماضي، واعتماد الواقع القائم، وبناء حياة جديدة ولكن على أساس هذه الواقع..
ولو أن الحركات التحريرية في العالم قد ألقت بالها إلى هذه المناشدة وأمثالها، لم تتحقق للشعوب المغلوبة على أمرها حرية ولا سيادة، ولبقي الاستعمار جاثما على صدر القارات القديمة في هذا العالم…
وفي مسيرة الصهيونية وهي تحقق انتصاراتها مرحلة بعد مرحلة كانت دائما تدعو كلما أثيرت مناسبة لتحقيق تسوية سلمية، إلى نسيان الماضي، والانطلاق من الواقع الذي وصلته الصهيونية دون أن تتراجع ولو خطوة واحدة إلى الوراء ولا تفتأ الصهيونية تحقق الواقع بعد الواقع، مرحلة بعد مرحلة… ويكون الواقع الجديد دعوة متجددة لنسيان الماضي والأخذ بالواقع الجديد، وهكذا دواليك..!!
ومن هنا، تبدو المفارقة حزينة ومفجعة في موكب هذه المبادرات العربية والإسرائيلية، حينما يسمع المواطن العربي دعوة واحدة من الطرف العربي والطرف الإسرائيلي معا وفي وقت واحد.. هذه الدعوة تقول بالعبرية والعربية، دعونا ننسى الماضي نحن أبناء اليوم ولننظر إلى المستقبل.. وفي هذا القول وحده تصفية وتسوية قبل الدخول في التسوية.
وموقف اللاّردّ ، أو اللامبالاة من الجانب العربي، له أبعاده الخطيرة على الصعيدين العربي والدولي، وخاصة أن الجانب الإسرائيلي يصر على التحدي، والجانب العربي لا ينهض للتصدي.
وعلى الصعيد العربي فإن الخطر العربي يتمثل في أن المواطن العربي لا يسمع رداً عربيا على التحدي اليهودي… وهذا يفضي في النهاية إلى ضعف القضية العربية وتراخي أصحابها في الدفاع عنها..
أما على الصعيد الدولي، فإن القضية الصهيونية تزداد إقناعا لدى الإنسان العادي في العالم ، ولماذا يكترث العالم إلى قضية، أي قضية لا يدافع عنها أصحابها.
ومن هنا فإن عدم التصدي لخطاب رئيس وزراء العدو، وعدم مطاردته الحجة بالحجة، تماما كمطاردة العدو في الميدان حتى يسقط على الأرض إعياء وإغماء، إنما هو خطأ فادح، وإثم قومي لا يغتفر، وذلك أكثر الألفاظ تهذيبا ورأفة ورحمة…
ومما يزيد في خطورة الأمر، أن خطاب بيجن قد جاء في أعقاب خطاب الرئيس السادات، وفي موكب إعلامه وكأنهما طرفان لقضية واحدة، عادلة وشريفة!!
ولقد يبدو خطاب رئيس وزراء العدو، في قراءته السريعة، أنه يردد كلاما عاديا ومعادا ولكن الحقيقة غير ذلك، فإنه في ظاهره كالأفعى ناعم الملمس وفي أنيابه العطب.. والخشية الخشية أن تتخذ الأفعى من بيوتنا جحورا لها … ومن بيوتنا تنساب إلى عقولنا وأفئدتنا .
وقد وردت في خطاب مناحيم بيجن مقولات خطيرة، تجدد الدعوى الصهيونية وتؤكدها، ولا يصح أن تمر من غير مناقشة أو تفنيد، حرمة للحق والتاريخ معا، وذودا عن القضية العربية وعن قضية فلسطين بالذات، وخاصة في هذه الأوقات حيث تجري محاولات استعمارية جادة لإفراغها من مضامينها القومية، وقدسية موقعها في ضمير الأمة العربية ووجدانها.
ولكن أخطر هذه المقولات التي تصل إلى حد الترهات هو ما ورد في آخر خطاب مناحيم بيجن حين أعلن للشعب المصري قوله "وسيسعدنا أن نرحب برئيس جمهوريتكم وأن نستقبله بالضيافة التقليدية التي ورثناها أنتم ونحن من أبينا المشترك إبراهيم".
ولا شك أن عبارة "الضيافة التقليدية" التي يتمسح به مناحيم بيجن تثير الغضب على هذا الكذب، فإن الذين نهبوا ثروات الشعوب بالربا والابتزاز والاختلاس ناهيك عن الوسائل الأخرى المنافية للشرف والقيم الأخلاقية، وكذلك فإن الذين اغتصبوا وطنا بكامله وسرقوا ممتلكات الشعب الفلسطيني من مدنه إلى قراه، إلى مزارعه إلى مصانعه، إلى فراشه وأثاثه، إلى مدخراته ومقتنياته، هؤلاء إنما يوجهون أكبر إهانة لكلمة "الضيافة" حينما يلوكونها بألسنتهم..ومتى كانت اللصوصية الدولية كرما وضيافة…
ولكن قصة أبينا المشترك إبراهيم على حد تعبير مناحيم بيغن لا بد أن نفرد لها هذا الفصل لانها تنطوي على أكبر أكذوبة عرفها التاريخ الانساني وهي أكذوبة افتراها أخبار اليهود لأغراض سياسية ودسوها في كتبهم الدينية ومنها انتقلت إلى مراجع تاريخية ومضت تكرر عبر العصور والأجيال حتى غدت من المسلمات في الثقافة العامة الشائعة .
وهذه الأكذوبة لا يشفع لها قدم الزمان الذي ترجع إليه، فإن سطحية الأرض قد امتدت زمنا طويلا ثم ما لبث العالم أن أسقطها إلى الأرض من غير هوادة ولا رحمة.
وآية العجب العجاب أن يتولى مناحيم بيجن بنفسه ترديد هذه الأكذوبة، ناسياً نفسه إلى إبراهيم، وهو آخر يهودي على وجه الأرض يستطيع أن يرفع نسبه إلى إبراهيم.. ويربط قرابته بالشعب المصري وبالأمة العربية عن طريق أبينا المشترك إبراهيم.
وحسبنا، كرّد أوَّلي على الأكذوبة،أن نرجع إلى كتاب "الثورة" الذي وضعه مناحم بيجن عن حياته الإرهابية في فلسطين، لنرى أن سفاح دير ياسين، قد كتب بيديه الملطختين بدماء الأبرياء من الشيوخ والنساء والأطفال، أنه ولد في بولونيا، وأنه دخل إلى فلسطين أثناء الحرب العالمية الثانية في غمرة من يسمون بالمهاجرين اليهود غير الشرعيين.
وفي فلسطين اليوم ما يقارب نصف سكان إسرائيل، من هم على شاكلة مناحيم بيجن، من مواليد بولونيا ورومانيا وهنغاريا وألمانيا وروسيا وكثير من بلدان العالم، وجميع هؤلاء لا يستطيعون أن يرتقوا إلى أبوة إبراهيم عبر رحلة تاريخية طويلة تقرب من أربعة آلاف عام هلكت خلالها أقوام، وبادت دول، وتشتت أمم، وانصهرت في غضونها شعوب وشعوب.
ولو أن أحداً من يهود اليمن قد زعم الذي أعلنه مناحيم بيجن، لكانت بين يديه قلامة ظفر من شبهة تاريخية في أنه تحدر من ملوك حمير الذين اعتنقوا اليهودية في سالف العصر والزمان، وإن كان هؤلاء ليسوا من مواليد إبراهيم، فالثابت أنهم كانوا من وثنيي العرب، وما حل إبراهيم في ديارهم.. فالحجاز كانت آخر ما وصل إليه إبراهيم في رحلاته…
وكذلك لو أن أحداً من يهود العراق قد انتحل النسب إلى إبراهيم، لكان له خيط نحيل من الشك في أنه من بقايا السبي البابلي، أو السبي الآشوري ومن هنا جاءت الصلة بإبراهيم.
بل لو أن أحداً من يهود المغرب أو تونس أو مصر قد نادي بأبوة إبراهيم، لأنصرف الظن أنه من يهود الأندلس الذين عاشوا مع العرب وشاركوا في الحكم ومجالات العلم والاقتصاد، ثم هاجروا منها إلى الوطن العربي بعد أن استعاد الإسبان أرضهم.
أما أن يتمسح مناحيم بيجن بأعتاب إبراهيم، فذلك هو الباطل الصارخ، بل هو باطل الأباطيل، على حد تعبير سليمان الحكيم.
ومن حق المواطن العربي أن لا نقف عند حدوده هذ الردود المنطقية الحاسمة فلا بد لنا أن نكشف عن الحقيقة بكل أبعادها وأطرافها، حتى لا تبقى في الأمر شبهة… وخاصة أن بعض "قادة العرب" ولا نريد أن نشير إليهم بأسمائهم، يتحدثون ومعهم أجهزة إعلامهم، عن "اليهود أبناء عمومتنا" وهم يحسبون أنهم بذلك يثبتون أنهم قوم متحضرون، وأنهم يعرفون درجة القرابة بيننا وبين اليهود.. وهي قرابة لا تنحدر إلا من الجد الأعلى آدم عليه السلام، لا من إبراهيم ولا من أبناء إبراهيم، فإن آدم هو أبو البشر، الأخيار منهم والأشرار.
وقد يبدو لأول وهلة، أن هذا الكلام نرسله جزافا من غير دليل علمي أو برها ن تاريخي .. ولنرجع إلى العلم و إلى التاريخ، بل فلنرجع أولا إلى التوراة وهي كتاب اليهود دينا، ودستور الصهيونية حركة وسياسة وعقيدة وهدفا…
وخلاصة ما ورد في التوراة بشأن القرابة التي نحن بصددها أن اليهود هم ذرية يعقوب ومن أبنائه الذكور الإثني عشر… وأن يعقوب هو ابن اسحق، واسحق بن إبراهيم … وفي القصص اليهودية أن يعقوب له اسم آخر وهو "إسرائيل " ويعني جندي الله، ومن هنا يسمى اليهود بني إسرائيل…
وسنعرض لهذا الموضوع، وتعقيداته والتواءاته في مواضع أخرى من هذا الكتاب.. وأول ما يجب أن نلفت إليه النظر، أن إبراهيم اليهود هو غير إبراهيم المسلمين، فالأول، كما هو في توراة اليهود، يختلف اختلافا تاما عن إبراهيم المسلمين.
وإبراهيم المسلمين ورد ذكره عدة مرات في القرآن الكريم، وصورته الرائعة في هذه السور الجميلة قد بلغت أرقى درجات الكمال الإنساني، وصفات التوحيد، وسمو القيم الروحية الرفيعة، ومن هنا فهو عند المسلمين "أبو الأنبياء" و "خليل الرحمن" و "أبو الضيفان"، وفي الصلاة في قراءة "التحيات" يدعو المسلمون قائلين: اللهم بارك على سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم. يرددونها في كل صلاة.
أما إبراهيم اليهود فإنه شخص آخر لا يمت بصلة إلى إبراهيم المسلمين، وها هي التوراة بين أيدينا لنتعرف على سيرة إبراهيم كما وردت في سفر التكوين، وهو أول أسفار التوراة.
إبراهيم –أو إبرام كما ورد في التوراة قبل أن يتحَّول اسمه إلى إبراهيم-ولد في أور* "الكلدانيين" أما آباؤه فقد ذكرت التوراة أنهم يرجعون بنسبهم إلى سام ابن نوح…
وتقول التوراة في الإصحاح الحادي عشر عن بداية القصة، أن "تارح" والد إبرام قد خرج من أور الكلدانيين إلى حاران**. ومعه أسرته الصغيرة، ابنه إبرام وزوجته ساراي، وابن أخيه لوط وزوجته ملكة. وأقاموا هناك وكانت أيام تارح مائتين وخمس سنين ومات في حاران".
وجاء في الإصحاح الثاني عشر أن الرب قال لإبرام :" اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك فأجعلك أمة عظيمة… وفيك تتبارك جميع قبائل الأرض … فذهب إبرام كما قال له الرب… وكان ابن خمس وسبعين سنة حين خرج من حاران".
ثم تذكر التوراة أنهم " أتوا أرض كنعان ومعهم ذخائر وعبيد وماشية.. واجتاز إبرام في الأرض إلى مكان شكيم-نابلس-وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض" وتحدثت التوراة بعد ذلك عن تجوال إبرام في الأرض.
وتقول التوراة فيما بعد أنه "حدث جوع في الأرض وكان شديدا"، فانحدر إبرام إلى مصر ليتغرب فيها، معه زوجته ساراي.. وكانت حسنة جدا كما تؤكد التوراة.. وهنا تأتي قصة خليعة لعلها أقدم قصة مدونة في تاريخ "الأدب" المكشوف…
وخلاصة القصة كما ترويها التوراة، "أن إبرام قال لساراي امرأته وهي على مقربة من مصر.. إني علمت أنك امرأة حسنة المنظر، فإذا رآك المصريون قالوا هذه امرأته فيقتلوني ويستبقونك.. قولي أنك أختي ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك…"!!
وذلك ما وقع فعلا، كما تروي التوراة "فلما دخل إبرام على مصر رأى المصريون أن المرأة حسنة جدا فأخذت إلى بيت فرعون فصنع إلى إبرام خيرا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء واثن جمال.. وضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة، ودعا إبرام وقال له :" ما هذا الذي صنعت بي؟ لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت لي هي أختي حتى أخذتها لتكون زوجتي.. خذها واذهب. ووكل به أناسا شيعوه إلى خارج الديار".
وهكذا فإن التوراة تقذف بزوجة إبراهيم ستنا سارة كما يسميها المسلمون إلى أحضان فرعون في فراشه، ليعود بها إبراهيم "مشيعا" خارج الديار، مجللا بالإثم والعار.. ويقينا فإن إبرام هذا هو جد اليهود حقا، وحاشا الله أن يكون جد المسلمين.. فالقصة إثم وعار في حق الأنبياء. إثم أن يتزوج الرجل اخته، وعار أن يبيع عرضه بالجمال والعبيد والحمير…!!
ثم تروي التوراة في الإصحاح الثالث عشر أن الرب قال لإبرام :
… سأجعل نسلك كتراب الأرض، حتى إذا استطاع أحد أن يعد تراب الأرض فنسلك أيضا يعد.."
وتتحدث التوراة بعد ذلك عن حرب محلية اشترك فيها إبرام، سنعرض لها في الفصول التالية. ثم يشكو إبرام في الإصحاح الخامس عشر إلى الرب قائلا :" إنك لم تعطيني نسلا.. فأخرجه الرب إلى خارج، وقال انظر إلى السماء وعد النجوم أن استطعت أن تعدها، وقال له هكذا يكون نسلك".
ويستأنف الإصحاح السادس عشر قصة إبرام فقول :" أما ساراى امرأة إبرام فلم تلد له… وكانت له جارية مصرية اسمها هاجر فقالت ساراي لإبرام ادخل على جاريتي لعلي أرزق منها بنين… فدخل إبرام على هاجر فحبلت.. فلما رأت ساراي أن هاجر حبلت أذلتها فهربت هاجر من وجهها… فوجدها ملاك الرب على عين في البرية فقال لها:… تكثيراً أكثر نسلك فلا يعد من الكثرة وستلدين ابنا تدعين اسمه إسماعيل.. وكان ابرام ابن ست وثمانين لما ولدت هاجر إسماعيل لإبرام.*.
وقال الله " ها أنا أبارك إسماعيل وأثمره وأكثره كثيرا جدا، أثني عشر رئيسا يلد وأجعله أمة كبيرة".
يبدأ الإصحاح السابع عشر حديثه قائلا " ولما كان إبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر له الرب وقال له.. سأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيراً جداً.. و تكون أبا لجمهور من الأمم، فلا يدعى اسمك بعد اليوم إبرام بل يكون اسمك إبراهيم، لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم… وأثمرك كثيراً جداً وأجعلك أمما، وملوك منك يخرجون، وساراي امرأتك لا تدعوها ساراي بل اسمها سارة وأباركها وأعطيك أيضا منها ابنا فتكون أمما، وملوك شعوب منها يكونون، فسقط إبراهيم على وجه وضحك وقال في قلبه هل يولد لابن مئة سنة، وهل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة". ولم تقل لنا التوراة كيف سجلت ما قاله إبراهيم في "قلبه"!!
وفي الإصحاح التاسع عشر تروي لنا التوراة قصة طريفة تقول أن الرب ظهر لإبراهيم وقال له "سيكون لامرأتك سارة ابن، وكانت سارة سامعة في باب الخيمة، وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في الأيام، وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء، فضحكت سارة في باطنها وقالت "أبعد فنائي يكون لي تنعمُ, وسيدي قد شاخ , فقال الرب لإبراهيم "لماذا ضحكت ساره , هل يستحيل على الرب شيء؟!… في الميعاد أرجع إليك ويكون لسارة ابن فأنكرت سارة قائلة لم أضحك, لأنها خافت.. فقال الله: لا بل ضحكت."…
وبسبب هذا الضحك بين سارة "وربها" فقد سمى المولود إسحق فهذا اللفظ معناه باللغة العبرية القديمة تضحك!! والحكاية كلها تدعو إلى الضحك فعلا. إذ كيف عرفت التوراة أن سارة قد انقطعت عنها "عادة النساء".. وكيف عرفت أن سارة ضحكت في باطنها من حديث الرب..!!
ويأتي الإصحاح العشرون ليكرر لإبراهيم نفس القصة المرذولة التي وقعت له مع فرعون مصر، لتكون هذه المرة مع ملك آخر هو ابيمالك ملك جرار وتقول التوراة "إن إبراهيم تغرب في جرار وأقام عند أبيمالك ملك الفلسطينيين، وقال إبراهيم عن سارة امرأته هي أختي، وأخذ أبيمالك سارة.. وجاء الله إلى أبيمالك في الحلم وقال له : إنها متزوجة ببعل فالآن رد امرأة الرجل".
ودعا أبيمالك إبراهيم وعنْفه بغضب على فعلته، فقال له إبراهيم لقد خفت أن يقتلوني "من أجل امرأتي وبالحقيقة هي أختي، أبنة أبي(!!) غير أنها ليست ابنة أمي (!!) فصارت لي زوجة(!)" فأعطى أبيمالك إبراهيم غنما وبقراً وعبيداً وأماءً ورد إليه سارة امرأته…
وتنتهي القصة البشعة "بأعجوبة" طريفة تقول "أن إبراهيم صلى إلى الله فشفى الله أبيمالك وامرأته وجواريه ,فولدن لأن الرب كان قد أغلق كل رحم لبيت أبيمالك بسبب سارة امرأة إبراهيم". ويبدو أن "الرب" قد أغلق أرحام البيت الملكي بأسره، ليفتح رحم سارة فيما بعد، وقد بقيت ما بقيت من الأيام والليالي مع ملك جرار من غير خمار ولا إزار.
وفي الإصحاح الحادي والعشرين تأتي التوراة مباشرة لتقول أن الرب "افتقد سارة كما قال، وفعل الرب لسارة كما تكلم فحبلت سارة وولدت لإبراهيم ابنا في شيخوخته أسماه إسحق.. وكان إبراهيم ابن مئة سنة".
ويأتي بعد ذلك الإصحاح الثاني والعشرون ليروي قصة الفداء على نقيض ما يقول به الإسلام في القرآن . فالضحية في التوراة هو إسحق وليس إسماعيل… وموقع الفداء هو في أحد جبال القدس لا في مكة، والتفاصيل الأخرى تكاد أن تكون متقاربة وتقول التوراة أن الرب قال لإبراهيم "من أجل أنك لم تمسك ابنك وحيدك، أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيرا كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر.. ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض من أجل أنك سمعت لقولي" وسكن إبراهيم بعدها في بئر السبع. وعبارة "ابنك وحيدك إسحق" يجب أن تبقى في ذاكرة القارئ لنرى كيف أصبحت محور القضية اليهودية، بالإضافة إلى حصر الحكاية الفداء في إسحق دون إسماعيل".
ويقول لنا الإصحاح الثالث والعشرون أن سارة عاشت مئة وسبعا وعشرين سنة.. وأنها ماتت في حبرون في أرض كنعان- الخليل، وفي حوار مع أهل المدينة، ناشدهم إبراهيم أنه غريب ونزيل عندهم، ويرجو إبراهيم دفن سارة في مغارة حقل المكفيلة في حبرون في أرض الكنعان.
ويقول الإصحاح الرابع والعشرون أن إبراهيم شاخ وتقدم في الأيام فدعا إليه اليعازر الدمشقي "عبده وكبير بيته " وقال له "ضع يدك تحت فخذي فاستحلفك بالرب إله السماء وإله الأرض أن لا تأخذ زوجة لإبني-اسحق-من بنات الكنعانيين الذي أنا ساكن بينهم، بل إلى أرضي والى عشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لابني أسحق".. وليلاحظ القارئ استمرار التركيز على إسحق دون اسماعيل كما عليه أن يلاحظ روح العداء على الكنعانيين وبناتهم، وهم أهل البلاد وأصحابها الشرعيون.
وتمضي التوراة في عدة صفحات لتروي قصة طريفة مليئة بالمفاجآت تنافس الأساطير القديمة سردا وتخريفا ونسيجا…
وخلاصة القصة كما يرويها الإصحاح الرابع والعشرون أن "عبد إبراهيم" ذهب على رأس قافلة من الجمال حتى وصل إلى أرام النهرين، حيث تسكن عشيرة إبراهيم، وكيف تعرف عند البئر على ابنة ابن أخي إبراهيم " رفقة" وعلى كتفها جرتها، "وكانت الفتاة حسنه المنظر جداً. وعذراء(!!) لم يعرفها رجل" ولم تذكر لنا التوراة كيف عرفت ان رفقة كانت عذراء، وهي ما تزال عند البئر لم يمسسها بشر!!
ثم تمضي القصة فتروي حديث (عبد إبراهيم) مع رفقة، وكيف تم التعارف بينهما، وكيف دعته إلى البيت، وما كان من الحديث بينه وبين أبيها، وعن المهمة التي أوفده إبراهيم من أجلها، ثم كيف عرض العبد موضوع زواج إسحق من أهله وعشيرته ومن غير بنات الكنعانيين.
ثم تحكى القصة أمر الموافقة على الزواج وكيف أن رفقة وفتياتها ركبن الجمال قاصدين أرض الجنوب وكيف تم اللقاء مع إسحق.. فأدخلها إلى خباء أمه سارة، "وأخذ رفقة فصارت زوجة له وأحبها إسحق وتعزى بعد موت أمه".
ومع أن هذا الأسطورة تبرز الكراهية الشديدة التي يضمرها إبراهيم للبنات الكنعانيات إلا أن مرجعا تاريخيا مرموق يقول إن إبراهيم تزوج بعد وفاة سارة امرأتين كنعانيتين رزق منهما بأحد عشر ولدا(1). ويبدو أن إبراهيم قد أحب لنفسه ما كرهه لولده إسحق، أو أن الكنعانيات أصلح للشيوخ من الشباب!!
ثم يطالعنا الإصحاح الخامس والعشرون ليقول لنا أن إبراهيم أخذ زوجة أسمها قطورة فولدت له ستة أولاد وردت أسماؤهم ومعظمها على وزن فعلان وهو وزن عربي في الصميم، وولد الأبناء ثمانية أولاد ذُكرت أسماؤهم… ويروي الإصحاح أن "إبراهيم عاش مائة وخمسا وسبعين سنة وأسلم روحه ومات بشيبة صالحة شيخا شبعان أياما وأنضم إلى قومه ودفنه إسحق وإسماعيل في مغارة المكفيلة حيث دفنت امرأته سارة.
ويذكر الإصحاح الخامس بعد ذلك مواليد إسماعيل بن إبراهيم الذي ولدته هاجر المصرية… فذكرت أسماءهم بديارهم وحصونهم إثنا عشر رئيسا حسب قبائلهم وعاش إسماعيل مئة وسبعا وثلاثين سنة وأسلم روحه ومات وانضم إلى قومه".
تلك هي قصة إبراهيم كما وردت في التوراة منذ مولده في أور الكلدانيين حتى هجرته إلى سوريا، والى فلسطين والى مصر ثم عودته إلى فلسطين وما تخلل ذلك مما جرى من حكايات لسارة ومعها، ثم وفاته فيها ودفنه في حبرون المدينة التي تحمل اسمه إلى اليوم مدينة خليل الرحمن…
فأين هذه القصص اليهودية الخليعة من السيرة الإسلامية الطاهرة لسيدنا إبراهيم كما وردت في القرآن الكريم وفي كتب التراث الإسلامي وفيها من جليل المواقف ما يأخذ بمجامع القلوب.
أين هذه الفضائح الأخلاقية مما يسرده كتاب "الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل" حين يقول "رُوي عن ابن عباس أن إبراهيم كان أول من لبس السراويل لأنه كان من حيائه يستحي أن، ترى الأرض عورته" ولتكن الرواية أسطورة، ولكنها أسطورة تبالغ في الحياء والشرف والعفة(1).
بل أين متاجرة إبراهيم بزوجته كما سردتها التوراة مما جاء في التراث الإسلامي "أن آزر أبا إبراهيم كان يصنع الأصنام ويعطيها لإبراهيم ليبيعها، فكان إبراهيم يقول :" من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟" فلا يشتريها أحد، فإذا بارت عليه ذهب بها إلى النهر فصوب فيه رؤوسها وقال لها اشربي استهزاء بقومه(2) فأي التاجرين أرفع وأروع في التاريخ الإنساني، التاجر الذي جاء ذكره في التوراة أم التاجر الذي جاء ذكره في القرآن؟.
بل إن حوار إبراهيم مع عقل إبراهيم ووجدانه، كما جاء في القرآن، يعتبر أعظم ما قصّه القرآن على مسامع الزمن، حين نظر إبراهيم إلى الكوكب فقال هذا ربي.. فلما أفل انصرف عنه وهو يقول: "لا أحب الآفلين…" ثم رأى القمر بازغا فقال: "هذا ربي".. فلما غاب انصرف عنه وقال: "ولئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين"… فلما طلعت الشمس فقال: "هذا ربي هذا أكبر" فلما أفلت انصرف عنها وقال لقومه: " إني بريء مما تشركون ، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاًوما أنا من المشركين"(1).
وبعد، فإن قصة إبراهيم كما جاءت في التوراة تؤدي إلى استنتاجات هامة، تناقض الدعوى اليهودية من الرأس إلى الأساس، وتكفينا مؤونة الرد على بيجن من نص التوراة نفسها فهي في كلمة بسيطة تثبت بصورة قاطعة أن إبراهيم ليس جدا لليهود، فهو يكاد أن يكون "آدم" الثاني، جداً للإنسانية بأسرها وليس جداً لليهود وحدهم. ويكفي في هذا المجال أن نبرز النقاط التالية:-
أولاً:- أن الرب قد وعد إبرام أن "يجعله أمة عظيمة .. وأن جميع قبائل الأرض تتبارك فيه. وذلك حينما طلب إليه الخروج من العراق .. وواضح من هذا الكلام أن إبرام ليس خاصا بشعب واحد، اليهود أو غيرهم، ولكن لجميع قبائل الأرض ,وهذا يشمل البشر جميعا على وجه التعميم".
ثانياً:- حينما عاد إبرام من مصر أكد الرب أنه "سيجعل نسل ابرام كتراب الأرض" لا يستطيع أحد أن "يعده" وهذا لا ينطبق على اليهود لأن عددهم كان محدودا على مر التاريخ، وهم من أقل الأقوام عددا، ومفهوم التأكيد الإلهي أن نسل إبراهيم سيكونون بني البشر أجمعين.
ثالثاً:- وعاد الرب، في موضع لاحق من سفر التكوين، وأكد مرة أخرى أن "نسل إبراهيم سيكونون بعدد النجوم" إذا كان يستطيع أن يعدها، وكان الرب في المناسبة السابقة قد أشار إلى نسل إبراهيم "كتراب الأرض" والنجوم والتراب أقرب إلى عدد البشر أجمعين لا إلى شعب بذاته.
رابعاً:- ولم تقتصر توكيدات الرب على إبراهيم بل أنها شملت هاجر زوجة إبراهيم المصرية , فقد أعلن إليها الرب بعد أن ولدت إسماعيل "أن يكثر نسلها بحيث لا يحصى".
خامساً:- وبعد ميلاد إسماعيل يظهر الرب لإبراهيم ليعلن إليه توكيدات جديدة يقول له فيها "سأكثرك كثيراً جداً، وتكون أبا لجمهور من الأمم،
ويكون أسمك بعد اليوم إبراهيم فلا يكون إسمك بعد إبرام بل يكون أسمك إبراهيم، لأني جاعلك أبا لجمهور من الأمم وأثمرك كثيرا جدا، وأجعلك أمما", وهذه التوكيدات تشير كلها إلى أن إبراهيم هو الجميع القبائل والشعوب والأمم وأنه يكون أبا لهم جميعا… وهذا هو السبب في تغير اسمه لأن لفظة "إبراهيم" في اللغات القديمة معناها "أبو الجمهور".
سادساً: وعادت توكيدات الرب لتشير إلى سارة فتذكر أن الرب قال لإبراهيم أن ساراى سيصبح أسمها سارة "أباركها وأعطيك منها إبنا، فتكون أمما، وملوك شعوب منها يكونون"، وبهذا أصبحت سارة وكأنها الأم الثانية للبشرية، بعد حواء، كما أصبح إبراهيم الأب الثاني بعد آدم.
سابعاً: ولم تستطع التوراة أن تغفل إسماعيل ابن الجارية فقالت إن الرب "سيباركه ويثمره ويكثره كثيراً جداً، ويلد إثني عشر رئيسا ويجعله أمة كبيرة".
ثامناً: ولا يفوتنا في هذا المجال أنه بالإضافة إلى الزوجتين سارة وهاجر فإن إبراهيم قد تزوج قطورة وكان له منها أولاد وأحفاد وتزوج امرأتين كنعانيتين أنجب منهما بنيناً وبنات.
تاسعاً: يبرز من هذه المقتبسات أن النزعة العنصرية عند اليهود قديمة قدم التاريخ، فإن إبراهيم اليهود، الذي أعلن عن نفسه أنه "غريب ونزيل" في مدينة حبرون وفي كنف الكنعانيين، يضمر كراهية شديدة للشعب الكنعاني، ويبعث بعبده إلى العراق، ليختار لإبنه إسحق زوجة من آل بيته…
عاشراً: كما تبرز هذه المقتبسات إسحق بأنه بطل الفداء، وأن إسحق هو ابنه الوحيد مع أن إسماعيل هو إبنه الكبير ويكبره ثلاثة عشر عاما… ولكن إسماعيل عربي الأم، واسحق هو أبو يعقوب، ويعقوب اسمه إسرائيل، وإليه ينتسب بنو إسرائيل، فكان لا بد لأحبار اليهود الذين كتبوا التوراة أن يدسوا في التوراة هذه الوقائع* .
حادي عشر: ويتبع ذلك أن الذين كتبوا التوراة قد جعلوا بيت المقدس لا مكة موضع الفداء، توكيداً على دعوى بني إسرائيل لبيت المقدس، وإن يعقوب الذي هو إسرائيل، كان بطل الفداء.. دون أن يكون لإسماعيل العربي، ابن هاجر المصرية، أي أثر أو خبر.
ثاني عشر: وقبل هذا وذاك فإن التوراة قد أغفلت أن إبراهيم هو عربي وابن قبيلة عربية. فهو من العراق، أور الكلدانيين، وكان العراق يستوطنه في ذلك العهد القبائل العربية التي نزحت من الجزيرة العربية وقد أوضح ذلك الأستاذ عباس العقاد في كتابه الشهير "إبراهيم أبو الأنبياء".
ثالث عشر: وأخيرا فإن التوراة تبرز نزوع اليهود إلى الإثراء الحرام.
بكل وسيلة، ولا حرج أن تكون الزوجة أو الشقيقة، هي الوسيلة، ولم يجد أحبار اليهود حرجا لإلصاق هذا العار بأبي الأنبياء، إبراهيم عليه السلام.
ونخلص من هذا التلخيص السريع، كما نقرأه في التوراة نفسها، وهي كتاب اليهود المقدس، إلى أن نصيب اليهود في أبوة إبراهيم لا يتجاوز حفنة رمل صغيرة من رمال البحر، وما هو أقل من ذلك من تراب الأرض.
وقد جاء العلم الحديث ليخبرنا عن عالم الفضاء، أن نجومه لا تعد ولا تحصى وبهذا أصبح سهم إسرائيل في إبراهيم أقل من القليل، بل أقرب إلى العدم.
هذا ما تنتهي إليه الدراسة الصابرة للتوراة وهي تقودنا إلى الحقيقة الصائحة الصارخة إلى عنان السماء، بأن حديث بيجن عن صلة اليهود بإبراهيم تكذبه التوراة بنفسها ونصها.
ولكن هذا الفصل يظل ناقصا إذا لم نتناول ولو بصورة سريعة موقف المسيحية من هذه الأسطورة اليهودية، والسيد المسيح عليه السلام هو أصدق من يتكلم في هذه الموضوع، وقد تصدى السيد المسيح وهو يدعو إلى رسالة الخير والمحبة والسلام، لدعوى اليهود بأنهم أبناء إبراهيم وقام بينه وبينهم حوارعنيف يجد القارئ العربي تفاصيله الوافية في الأناجيل وهذه خلاصته.
كان المجتمع اليهودي قد بلغ أقصى درجات الإلحاد والانحطاط الخلقي والفساد الاجتماعي، وقد أثار ذلك في نفس السيد المسيح ثورة عارمة على الحياة اليهودية برمتها، وهو بنفسه يهودي المولد والنشأة، فانطلق يدعو إلى الثورة على أباطيل اليهود وخرافاتهم، فكان أعظم ثائر يهودي على مر العصور والأجيال.
وثار أول ما ثار على العقدة الكبرى في نفوس اليهود ألا وهي أنهم أبناء إبراهيم وأنهم في عصمة من العذاب والعقاب، وإنا لنجد في إنجيل يوحنا (الإصحاح الثامن) حواراً عنيفاً بينه وبينهم.
قال اليهود للمسيح: أبونا هو إبراهيم..
قال لهم يسوع: لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تفعلون أعمال إبراهيم… ولكنكم تطلبون أن تقتلوني .. هذا لم يعلَّمه إبراهيم… أنتم من أب هو إبليس".
ولم يتردد السيد المسيح من أن يترجم غضبه من الوعظ والإرشاد، إلى الشدة والعنف فقد دخل الهيكل-معبد اليهودي، مرة ورأى فيه الصرافين وباعة الحمام فأخرجهم وهو يعلن في وجههم "لقد جعلتم بيت الله مغارة لصوص".
وفي جبل الزيتون الواقع شرقي بيت المقدس وقف السيد المسيح يبعث صيحاته الواحدة تلو الأخرى منذراً جموع اليهود بقوله "يا أورشليم،يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة أفراخها تحت جناحيها، ولم يريدوا هو ذا بيتكم يترك لكم خرابا (إنجيل متى الإصحاح 22).
وفي سفر أعمال الرسل يشتد الإنجيل على اليهود بكلام غليظ فيسخر من معتقداتهم وخاصة من موضوع الختان حيث يقول الإصحاح السابع "يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان..كما كان آباؤكم كذلك أنتم.. أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم وقد قتلوا الذين سبقوا".
ويأتي بعد ذلك دور بولس الرسول، وهو من أبرز تلاميذ السيد المسيح وقد ولد ونشأ يهوديا، واضطهد المسيحية أول الأمر ثم اعتنقها وأصبح من أشد دعاتها وها نحن نراه في رسائله البليغة يدخل في حوار عنيف حاد مع جموع اليهود ويصيح في وجههم قائلا :" هل الله لليهود فقط؟ أليس للأمم أيضا" ثم يتحدث عن أبوة إبراهيم ويفرق بين "إبراهيم الجسد" و "إبراهيم الأعمال" في رسالة بولس إلى أهل رومية (الإصحاح الرابع ) وهو يؤكد بذلك أن الإنتساب إلى إبراهيم ليس بالدم ولكن بالأعمال الصالحة.
يعود بولس الرسول لتوكيد هذه المعاني فيتحدث في رسالته إلى أهل كورنثوس (الإصحاح العاشر) عن "إسرائيل الجسد" وهو يعني بذلك أولئك الذين يزعمون أنهم من نسل إبراهيم ويردد في رسالته إلى أهل رومية قائلا :" لأنه ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون كل ذلك ليؤكد أن (أبوة) إبراهيم هي مسألة رمزية، وليست العبرة بالقرابة، وإنما بالأعمال الصالحة ، لأن "إبراهيم هو أب لجميعنا" كما يردد المرة بعد المرة، وبهذا تصبح علاقة اليهود بإبراهيم كعلاقة الناس أجمعين.
وبولس الرسول هذا كان يعنف اليهود ويسخر من أباطليهم، يتحدث إليهم بالعبرية ويرد على دعاواهم بمنطقهم فقد كان متفهما في دينهم، وبلغ من جداله معهم أن أثار معهم موضوع "الختان" وهو علامة الإيمان عند اليهود فقال لهم "نحن الختان، نعبد الله بالروح ولا نتكل على الجسد.. مع أن لي أن أتكل على الجسد أيضا. وأنا بالأولى أن أتكل على الجسد، من جهة الختان , أنا مختون في اليوم الثامن (مثلكم) أنا من جنس إسرائيل ومن سبط بنيامين عبراني من العبرانيين ومن جهة الناموس الناموس فريسي (من رسالته إلى أهل فليبي) .. وبهذا قطع الطريق على كل حججهم، من الختان إلى نسب العبران..الى أبوة إبراهيم..
وتصدى لهم مرة أخرى بكل دعاواهم وخاصة فيما يتعلق بانتسابهم إلى إبراهيم، فقال في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس "أهم عبرانيون فأنا أيضا، أهم إسرائيليون فأنا أيضا، أهم نسل إبراهيم فأنا أيضا". (الإصحاح الحادي عشر).
ومع أن هذه الحجج الدامغة قد انقضى عليها عشرون قرنا من الزمان إلا أنها لا تزال حية نابضة، تدمغ الإسرائيليين في كل مكان من بيجن العدو المحتل في بيت المقدس، إلى الحاخام اليهودي في نيويورك إلى الأعضاء اليهود في الكونجرس في واشنطن..
وليس لنا أن ننسى في هذا المجال أن يوحنا المعمدان قد صاح في وجه اليهود صيحة عالية، فلنستمع إليه وهو يصيح "يا أولاد الأفاعي… لا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أباً…. لأني أقول لكم أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم". ومعروف أن يوحنا المعمدان كان يهودياً وقد عرف كيف يخاطبهم من معتقداتهم وفي لغتهم… وكان السيد المسيح يقول لليهود في وجوههم : "إنكم قتلة الأنبياء.. أيها الحيات، أولاد الأفاعيً.
وفي الإصحاح الرابع من إنجيل يوحنا يصل السيد المسيح إلى قمة الثورة على اليهود ويقول "إن الخلاص هو من اليهود" فكانت هذه أعظم صيحة تداوت وما تزال في سمع الزمان…
وهكذا فقد كانت المسيحية في واقع الأمر أكبر ثورة تصحيحية على أباطيل اليهود، وكان السيد المسيح نفسه هو رافع علم الثورة. فقد تصدى للعصبية اليهودية والإنتساب إلى إبراهيم كطريق للخلاص والعصمة ودعى إلى طهارة القلوب أولا، لا إلى طهارة الجسد بالإختتان.
والى هذه المعاني وأمثالها أشار المؤرخ الشهير الأستاذ جيبون في كتابه "آضمحلال الإمبراطورية الرومانية" حيث قال: " إن المسيحية انتشرت لأنها صححت الكثير من تطبيقات اليهود لعقيدتهم في الرب ووسائل عبادته… وبعد أن كان الوعد برضاء الله محصوراً في ذرية إبراهيم-تميزا وتحزبا- أصبح في المسيحية قدراً مشترطاً للأحرار والعبيد، واليونانيين والبربر، واليهود والأمميين على السواء.."
وبعد المسيحية جاء الإسلام والحديث هنا لا يتسع له إلا كتاب كبير، فإن حوار اليهود مع الرسول عليه السلام بعد أن هاجر إلى المدينة المنورة يستنفد صبر الصابرين.
وكانت حكاية إبراهيم من أبرز المواضيع التي دار حولها الحوار، وقد حسم القرآن الكريم الأمر بأبلغ الحديث كما جاء في سورة آل عمران مخاطبا اليهود مباشرة… "يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم، وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون .. ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفا مسلما , وما كان من المشركين.. إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين أمنوا والله ولي المؤمنين".
صدق الله العظيم
وكأنما جاءت هذه الآية تحمل "الدليل المادي" القاطع كما يقول رجال القانون، فإن التوراة قد تم تدوينها، باعتراف أحبار اليهود أنفسهم، بعد ألف عام من حياة إبراهيم… ومن هنا فإن القرآن يوجه سؤاله الصارخ إلى اليهود :" لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده" ومن بعده بألف عام!!
تلك هي صفوة القول في علاقة اليهود بإبراهيم، بدأناها بالتوراة، ثم بالإنجيل، وجعلنا خاتمتها ما جاء بالقرآن الكريم.
ولا بد لنا بعد ذلك أن ننزل في شجرة النسب من إبراهيم إلى ولده إسحق ثم إلى حفيده يعقوب المسمى إسرائيل لنتابع أساطيرهما كما وردت في التوراة، مليئة بالمكر والخديعة والاحتيال على الله. وما هو أسوأ من ذلك, تلك المعركة التي خاضها يعقوب مع الرب.
أجل إنها معركة مصارعة بين يعقوب والرب امتدت طيلة الليل حتى شروق الشمس وكانت السبب في تسميته "إسرائيل".
وفي الصفحات التاليات سنقف على تفاصيل هذه المعركة وميدانها وأسبابها، ومن الغالب فيها ومن المغلوب، ونستغفر الله العظيم.
تلك هي أساطير الأولين كما دونها الأحبار الإسرائيليون، وسبحان رب العزة عما يصفون.