الفصـل السـابع
جفف النهر.. وأوقف الشمس والقمر
ولكنه ما انتصر
جفف النهر.. وأوقف الشمس والقمر
ولكنه ما انتصر
توفي موسى في مشارق نهر الأردن، ودفن في واحد من جبالها بعيدا عن أرض كنعان حين أعلن إليه الرب أنه لا يعبر الأردن ولا يرى أرض كنعان عقابا له على عصيانه وخيانته كما كتب أحبار اليهود في التوراة.
ولم يكن موسى وحده هو الذي أنزل الرب عليه هذا العقاب، بعد ما لقي من الأهوال والمتاعب على يد بني إسرائيل منذ أن خرجوا من مصر وعبروا سيناء في طريقهم إلى أرض كنعان، فقد قضى الرب بإبادة "الجيل الإسرائيلي الشرير" في متاهات الصحراء ليموتوا في فيافيها ويدفنوا في بطونها، دون أن يتركوا وراءهم قبرا أو أثرا.
وبعد موسى، عهد (الرب) إلى خادمه يشوع بن نون بأن يقود الجيل الإسرائيلي الجديد، إلى أرض كنعان، فيجتاحها ويدمرها، ويطرد أهلها، ويسكن بني إسرائيل في مدنها وقراها..
وكما ترك لنا أحبار اليهود أخبار الخروج بقيادة موسى في سفر الخروج وما بعده من أسفار التوراة، فقد تركوا لنا سفرا باسم يشوع القائد الجديد، ليفصل لنا مسيرة الدخول إلى فلسطين منذ تولي أمور القيادة إلى أن توفي وهو ابن مئة وعشرين سنة.
ويتناول سفر يشوع خمسة جوانب رئيسية من تلك المرحلة، وهي:
1 - خطة الحرب التي اتبعها يشوع في هجومه على أرض كنعان.
2 - العجائب والمعجزات التي صنعها (الرب) لتحقيق النصر لبني إسرائيل على أهل البلاد.
3 - اجتياح أرض كنعان وتدمير حصونها وإحراق مدنها وقراها، وإبادة أهلها وسبي نسائها وأطفالها ونهب مواشيها وأموالها.
4 - تقسيم الأرض بالقرعة بين أسباط إسرائيل، وبيان الحدود بالتفصيل مدينة مدينة وقرية وقرية.
5 - مصير أهل البلاد وملوكها وما استقرت عليه حملة يشوع في النهاية.
وفي تضاعيف هذه الجوانب الخمسة، سنجد أن السفر يحتوي كثيرا من الغرائب والخرافات تتفق مع نسيجها مع مسيرة الخروج مما يقطع بأن مؤلف هذه وتلك إنما هو مؤلف واحد، أو جماعة واحدة عكفت على كتابة التوراة وصولا إلى أهداف معينة.. مثلهم في ذلك مثل أصحاب العقائد السياسية والاجتماعية والاقتصادية الذين ظهروا في القرون الأخيرة.. وضعوا أفكارهم في إطار عقيدة محددة تحقيقا لأهداف معينة.
ورغما عن جميع تلك الخرافات ومعها معجزات "الرب" فإن هذا السفر بعض الوقائع الأساسية، مدفونة هنا وهناك تحت ركام هذه الغرائب أو تلك.. ومن هنا فإن "الحقيقة" مدينة أكبر الدين لسفر يشوع لأنه تضمن تلك الوقائع .. بل إن سفر يشوع يجب أن يعتبر منجما ثمينا يحتوي كنوزا ثمينة من الحقائق .. حقائق مطمورة تحت أثقال الخرافات والترهات..
ولسنا نريد أن نسبق التحليل والحكم، فذلك متروك للقارئ، ولكنّنا نستطيع أن نقول من الآن أن من يقرأ سفر يشوع من بدايته إلى نهايته بصبر وأناة ستفاجئه الحقيقة الكبرى بأن جانبا كبيرا من التاريخ اليهودي، كما كتبه اليهود بأنفسهم، إنما هو كذب وتزوير.
والذي نعنيه بالتحديد، أن سفر يشوع الذي سرد بالتفصيل حروب إسرائيل" وانتصاراتها" في أرض كنعان، هذا السفر نفسه هو الذي يثبت كذب هذا السرد ويحكم عليه بالتزوير، وخاصة فيما يتعلق بمصير "البشر" الذين كانوا يعيشون في وطنهم في أرض كنعان.. ولنبدأ القصة من أولها كما جاءت في هذا السفر الخطير..
يبدأ سفر يشوع بإصدار أمر العبور.. ويقول الإصحاح الأول أن الرب كلم يشوع قائلا :" موسى عبدي قد مات. فالآن قم اعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل".
وشأن كل خطة عسكرية، كان لا بد لأمر العبور أن يتضمن حدود الأرض التي يتعين أن تكون هدف الخطة.. وتفاجئنا التوراة بأن تضع حدودا جديدة، موسعة، وكأنما العدوان والتوسع تقليدان عريقان في حياة الشعب اليهودي.
والحدود الجديدة، كما يقول هذا الإصحاح " كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته،.. من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات، جميع أرض الحثيين، والى البحر الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخكم" ، وهذه الحدود تتجاوز كل الحدود التي وعد بها إبراهيم وإسحق ويعقوب، في سفر التكوين.
بل إنها أرض بلا حدود.. إلى حيث تصل بطون أقدامكم!!
وقام يشوع بدوره فأمر"عرفاء الشعب" بأن يهيئوا زادا لثلاثة أيام يعبرون بعدها الأردن.
ووضع يشوع خطة للتجسس، وقد سبق أن كان هو بنفسه على رأس الجواسيس الذين أرسلهم موسى إلى أرض كنعان، واختار يشوع جاسوسين اثنين بعث بهما إلى مدينة أريحا، وهي أول مدينة ذات شأن لمن يعبر الأردن غربا… وقد أوضحت آثارها التي اكتشفت أخيراً بأن الكنعانيين بنوا هذه المدينة قبل عشرة آلاف عام.. أي قبل مولد الإسرائيليين كجماعة بخمسة آلاف عام.
ويقول الإصحاح الثاني من السفر أن يشوع قد طلب إلى الجاسوسين أن يستعينا بـ"راحاب الزانية" المقيمة في أريحا، والغريب في هذه الحكاية كما ترويها التوراة أن الزانية قد قصت على الجاسوسين كل ما جرى لبنى إسرائيل ابتداء من عبور البحر الأحمر، واجتيازهم برية سيناء وحروبهم مع ملوك شرق الأردن، كل ذلك بتفصيل كأنما كانت تلك الزانية مرافقة لبني إسرائيل في مسيرة الخروج من بدايتها..وقالت للجاسوسين :"لقد سمعنا-بكل ذلك-وذابت قلوبنا ولم تبق بعد روح في إنسان بسببكم".. وطلبت منهما علامة حتى لا يؤذوها، هي وأهلها، حين يدخلون أريحا.. فأعطياها العلامة وانصرفا إلى يشوع بعد أن ساعدتهما في الهرب من أريحا والعودة إلى بني إسرائيل.
وأمر هذين الجاسوسين يوضح أن التجسس تقليد قديم عند بني إسرائيل، برعوا فيه، وفي التاريخ المعاصر، يعتبر الخبراء أن الجاسوسية الإسرائيلية تأتي مرتبتها العالمية بعد الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة.
وكذلك فإن استخدام النساء، والزانيات في أداء هذه المهمة يعتبر تقليدا إسرائيليا عريقا عرف عبر جميع العصور، وقصص الجاسوسية العالمية، حافلة بأخبار النساء اليهوديات في هذا الشأن وخاصة في الحربين العالميتين ؛ الأولى والثانية، تداولتها دور التأليف والنشر والأفلام السينمائية في جميع أرجاء العالم.
وتقول التوراة أن الجاسوسين نزلا من مخبأهما في الجبل وعبرا نهر الأردن "وأتيا إلى يشوع بن نون وقصا عليه كل ما أصابهما، وقالا ليشوع أن الرب قد دفع بيدنا الأرض كلها وقد ذاب كل سكان الأرض بسببنا"، ومعنى ذلك أنه لم يبق إلا الزحف… وأنهما حققا النصر حتى قبل أن تبدأ الحرب.
وبدأ بنو إسرائيل الزحف فعلا، وابتدأ الرب من جانبه القيام بدوره في المعركة.. فقال ليشوع " إن الرب يعمل غدا في وسطكم كعجائب" وقال يشوع لبني إسرائيل "إن الله الحي في وسطكم .. وطردا يطرد من أمامكم الكنعانيين والحثيين والحويين والفرزيين والجرجاشيين والأموريين واليبوسيين.. هو ذا تابوت العهد عابر أمامكم في الأردن"، وبدأ الله يصنع عجائبه كما تسرد التوراة.
وكانت العجيبة الأولى أنه حينما دخل حاملو تابوت الرب إلى الأردن، وانغمست أرجل الكهنة في ضفة المياه وقفت مياه الأردن المنحدرة من فوق وقامت سدا واحدا.. وانقطعت المياه تماما وعبر الشعب مقابل أريحا حتى انتهى جميع الشعب من عبور الأردن. ولا تبعد العجيبة في تفاصيلها التي ذكرتها التوراة عن عبور البحر الذي تم لبني إسرائيل في بداية الخروج تحت قيادة موسى. والتكرار وحده يثبت أنها أكذوبة!!
وعلينا أن نلاحظ هنا أن كلمة الطرد سترد كثيرا في سفر يشوع.. وسنرى إذا كان أولئك الأقوام طردوا في النهاية فعلا.. وما إذا كانوا قد خرجوا من مدنهم وقراهم ومزارعهم ومن بيوتهم.. أو أن الأمر مجرد كلام في كلام وأوهام في أوهام، وسنرى بعد حين.
ولكن معجزة عبور الأردن كانت قد وصلت أخبارها إلى أهل البلاد، دون أن تذكر لنا التوراة كيف تم ذلك.. وكانت تلك المعجزة بمثابة حملة الرعب التي سبقت بني إسرائيل ونزلت على الأقوام أهل البلاد، نزول الصاعقة.
ويقول لنا الإصحاح الخامس أنه "عندما سمع جميع ملوك الأموريين الذين في "عبر الأردن" غربا وجميع ملوك الكنعانيين الذين على البحر أن الرب قد يبس مياه نهر الأردن من أمام بني إسرائيل.. ذابت قلوبهم ولم تبق فيهم روح بعد من جراء بني إسرائيل"!!
وحدثت بعد معجزة العبور، فيما تروي التوراة،معجزة صغرى تمهيدا لمعجزات كبرى، ذلك أنه لما أشرف يشوع على أريحا، "رفع عينيه وإذا برجل واقف قبالته وسيفه مسلول بيده، فسارع يشوع إليه وقال "هل أنت لنا أو لأعدائنا" فقال: "كلا بل أنا رئيس جند الرب الآن أتيت".. فسقط يشوع على وجهه على الأرض وسجد وقال له: "بماذا يكلم سيدي عبده"، فقال رئيس جند الرب ليشوع: اخلع نعلك من رجلك لأن المكان الذي أنت واقف عليه هو مقدس".. ففعل يشوع ذلك وهذا هو ما جرى لموسى في سيناء، حيث خلع نعله لأن المكان مقدس.. كما طلب منه الرب.. والتوراة عند أحبار اليهود تكرر نفسها على الدوام في كثير من الأحداث.
ويجيء الإصحاح السادس بعد ذلك لنقرأ فيه مجموعه من الخرافات كلها منسوبة إلى الرب، لأن الرب هو الذي يحارب عن إسرائيل كما تقول التوراة في كل مناسبة ويضع لهم خطط الحرب ثم يتولى تنفيذها.
وخطة الحرب التي أعدها الرب وأمر بها يشوع تتلخص في أن يدور جميع رجال الحرب حول دائرة المدينة مرة واحدة يوميا على مدى ستة أيام، يتقدمهم تابوت العهد، وأمامه سبعة كهنة يحملون الأبواق، وفي اليوم السابع، كما قال الرب، يدورون دائرة المدينة سبع مرات والكهنة يضربون الأبواق.. ثم يهتف الشعب "هتافا عظيما فيسقط سور المدينة في مكانه".
وشرح يشوع لبني إسرائيل خطة الرب وطلب إليهم أن يعملوا بها.. فسار الموكب كما رسمه الرب، وداروا حول المدينة لسبعة أيام حسب الخطة الموضوعة، وهتف الشعب هتافا عظيما فسقط السور في مكانه وصعد الشعب وأخذوا المدينة!!
وهنا تسرد التوراة تفاصيل المذبحة الرهيبة التي اقترفها بنو إسرائيل واستباحوا، كما تنص التوراة "كل ما في المدينة من رجل وامرأة وطفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف" وقد استثنيت الزانية راحاب التي آوت جواسيس يشوع فقد أخرجت المرأة وأبوها وأمها وكل مالها وكل عشائرها من المدينة، حتى "يتوِّج " بنو إسرائيل مذبحتهم الكبرى بالمأساة العظمى..
وتروي التوراة بكل هدوء، كما تروي أي حدث عادي أن بني إسرائيل "أحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها، إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بيت الرب.. وحلف يشوع في ذلك الوقت قائلا :"ملعون قدام الرب الرجل الذي يبني هذه المدينة أريحا، ببكره يؤسسها وبصغيره ينصب أبوابها".
وبعد أريحا أتجه بنو إسرائيل إلى بقية البلاد.. ووصلوا إلى بلدة عاي، وأرسل إليها يشوع الجواسيس ليتعرفوا على أحوالها، كما فعلوا مع أريحا.. وعاد إليه الجواسيس بتقرير يهون من شأن أهل عاي.. فقد قالوا أن أهل عاي قليلون ويكفي لمحاربتهم ثلاثة آلاف رجل.
وكان هذا التهوين في التقرير لتبرير الهزيمة التي مني بها بنو إسرائيل، فتقول التوراة أن ثلاثة آلاف رجل صعدوا وهربوا أمام أهل عاي.. وطاردهم أهل عاي وضربوهم حتى المنحدر.. "فذاب قلب الشعب وصار مثل الماء فمزق يشوع ثيابه وسقط على وجهه إلى الأرض أمام تابوت الرب إلى المساء هو وشيوخ إسرائيل ووضعوا ترابا على رؤوسهم" كل ذلك كما تقول التوراة كلمة كلمة.
وقد أصيب يشوع بالفزع وبدأ يتذمر على الرب، فقال "آه يا سيدي الرب، لماذا عبرت هذا الشعب الأردن تعبيرا لكي تدفعنا إلى يد الأموررين ليبيدونا.. ماذا أقول بعدما حول إسرائيل قفاه أمام أعدائه".
وقد حاول أحبار اليهود أن يجدوا تفسيرا لهذه الهزيمة، ولكن حبل الكذب قصير كما يقول المثل العادي- فإن التفسير الذي أوردته التوراة قد كذبته التوراة بعد عبارات أخرى..
كان هذا التفسير أن الرب قد غضب على بني إسرائيل وأنزل بهم الهزيمة لأن واحدا من بني إسرائيل اسمه "عخان" قد سرق من الغنيمة رداء نفيسا ومئتي شاقل فضة وطمرها في الأرض في وسط خيمته .. وإزاء ذلك فقد أخذ يشوع عخان هذا ومعه المسروقات "وبنيه وبناته وبقره وحميره وغنمه وخيمته.. فرجمه جميع بني إسرائيل بالحجارة وأحرقوهم بالنار ورموهم بالحجارة.. ورجع الرب عن حمو غضبه".
ولكن ما ينتهي الإصحاح السابع من هذا الكلام حتى يأتي الإصحاح الثامن ليكذب هذا التفسير.. بل إنه يجعل النهب حلالا مباحا، وبأمر من الرب..
ويقول الإصحاح الثامن بكل بساطة أن الرب قال ليشوع "لا تخف، خذ رجال الحرب وقم واصعد إلى عاي.. انظر قد دفعت بيدك ملك عاي وشعبه ومدينته وأرضه، فتفعل بعاي وملكها كما فعلت بأريحا وملكها، غير أن غنيمتها وبهائمها تنهبونها لأنفسكم".
وهكذا فإن الإصحاح السابع الذي قال أن بني إسرائيل لم يتمكنوا من الثبوت أمام أعدائهم وأداروا لهم قفاهم لأنهم أخذوا من الحرام بل سرقوا ووضعوا السرقة في أمتعتهم.. "ولا أعود معكم إن لم تبيدوا الحرام من وسطكم" هذا الرب نفسه طلب إبادة السارق حتى يعود الرب إلى بني إسرائيل، هو الذي أمر في الإصحاح التالي أن يقوم بنو إسرائيل بنهب أغنام عاي وبهائمها.. وأن يفعلوا بها ما فعلوه بأريحا وملكها..
ويمضي الإصحاح الثامن بعد ذلك ليروي لنا ماذا فعل بنو إسرائيل بعاي، فقد جعلوا لأهلها كمينا واستدرجوهم إلى خارج المدينة فدخلوها وأحرقوا المدينة بالنار وصعد يشوع ورجاله وضربوا رجال عاي.." حتى لم يبق منهم شارد ولا منفلت".. وضربوا أهل المدينة بحد السيف حتى فنوا جميعا وقتلوا جميع سكانها وبلغ عددهم من النساء والرجال اثني عشر ألفا، "جميع أهل عاي"، ونهب بنو إسرائيل البهائم والغنيمة "لأنفسهم حسب قول الرب الذي أمر به يشوع وأحرق يشوع عاي وجعلها تلا أبديا خرابا.."
وأما ملك عاي فتقول التوراة أنهم امسكوه حيا وعلقوه على الخشبة إلى وقت المساء ثم أنزلوا جثته وطرحوها عند مدخل باب المدينة.
والمواطن العربي، حين يقرأ تفاصيل هذه المذابح الرهيبة التي اقترفها اليهود في أريحا وعاي لا يملك إلا أن يتذكر المذابح التي اقترفها اليهود في فلسطين منذ أن حلوا بالبلاد، وخاصة ما ارتكبوه في عامي 1947 و 1948، ابتداء بمذبحة دير ياسين وكفر قاسم وقبيه، وسائر حوادث الإرهاب، فضلا عن أن اعتداءاتهم المتكررة على قرى الحدود في الأردن ولبنان وقصف مخيمات اللاجئين وأخذهم الثأر أضعافا مضاعفة، لا على شريعة السن بالسن، وإنما بشريعة جديدة وضعها زعماؤهم المعاصرون، ألفي رأس برأس..
وما أن انتهت أحداث الحرب الساخنة حتى انتقلت التوراة إلى الحرب الباردة فذكرت أن أهل البلاد قد أصيبوا بالجزع ولم يبق أمامهم إلا الاستسلام والصلح، فيذكر الإصحاح التاسع "أن سكان جبعون لما سمعوا ما علمه يشوع بأريحا وعاي فهم عملوا بغدر" وجاءوا إلى يشوع بثياب بالية متظاهرين بالفقر والمسكنة وأنهم وفدوا عليه من ديار بعيدة يطلبون الإبقاء على حياتهم وأن يقطع لهم عهدا بالأمان واستجاب لهم يشوع رأفة بهم..
وبعد العهد، تقول التوراة، اكتشف بنو إسرائيل أن أهل جبعون قد خدعوهم، وأنهم لم يأتوا إليهم من ديار بعيدة، وإنما هم "ساكنون في وسطهم". وكاد بنو إسرائيل أن يبطشوا بهم لولا أن تدخل يشوع، ولا يجد يشوع مناصا من أن يحكم عليهم "بالعبودية" فدعاهم وقال لهم :"لماذا خدعتمونا وأنتم ساكنون في وسطنا، فالآن ملعونون أنتم فلا ينقطع منكم العبيد ومحتطبو الحطب ومستقو الماء" وهكذا فقد قضى بنو إسرائيل، وبأمر الرب، أن يصبح أهل البلاد عبيدا لبني إسرائيل، يستقون له ماء ويقطعون لهم حطبا.
ولقد رأينا تلخيص هذه الحادثة لأنها مع غيرها ستكون محوراً التكذيب مدى الوجود اليهودي في فلسطين في تلك الحقبة.. ولأن هذه الحادثة بالذات قد أثارت ملوك البلاد وحفزتهم على التصدي لليهود ومحاربتهم دفاعا عن وطنهم ووجودهم.. فالتوراة تذكر في الإصحاح التاسع أن "جميع الملوك الذين في عبر الأردن، في الجبل والسهل وفي كل ساحل البحر الكبير إلى جهة لبنان:الحثيون والأموريون والكنعانيون والفرزيون والحويون واليبوسيون اجتمعوا معا لمحاربة يشوع وإسرائيل بصوت واحد".
ويمضي الإصحاح العاشر في سرد أخبار هذه الحرب، من وجهة النظر اليهودية طبعا،ويذكر أن "أدوني صادق" ملك أورشليم، هو الذي أخذ زمام المبادرة حين سمع بما جرى لأهل أريحا وعاي وجبعون فدعا ملوك الأموريين الخمسة للحرب، فتصدوا أولا لأهل جبعون لأنهم صالحوا بني إسرائيل.
وتدخل بنو إسرائيل في الحرب.. وكذلك تدخل الله معهم لمحاربة الملوك الأموريين الخمسة "وأزعجهم أمام إسرائيل وضربهم ضربة عظيمة" وطاردهم من مدينة إلى مدنية "ورماهم الرب بحجارة عظيمة من السماء فماتوا، والذين ماتوا بحجارة البرد هم أكثر من الذين قتلهم بنو إسرائيل بالسيف"، كما تقول التوراة، لأن الرب هو الذي يحارب عن إسرائيل، دوما!!
ولم يكتف الرب بذلك ولكنه جعل الشمس تدوم على جعبون،والقمر على وادي أيلون.. "فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه .. ووقفت الشمس في كبد السماء نحو يوم كامل ولم يكن مثل ذلك اليوم لا قبله ولا بعده.. لأن الرب حارب عن إسرائيل"!!
ويصف الإصحاح نهاية هذه المعركة بأن بني إسرائيل قد ضربوا أعداءهم ضربة عظيمة جدا حتى فنوا.. وأخذ يوشع "مقيدة" وضربها بحد السيف وكل نفس بها ولم يبق شاردا.. وحارب "لبنة" وضربها بحد السيف وكل نفس بها ولم يبق بها شاردا .. وحارب "لخيش" وضربها بحد السيف وكيف نفس بها ولم يبق شاردا.. وحارب ملك "جازر" ولم يبق منهم شاردا.. وكذلك بملك "عجلون" ومنها إلى "حبرون-الخليل" ولم يبق منها شاردا.. ومنها إلى "دبيرولم يبق منها شاردا.
وقد ذكرنا هذه المواقع واحدة واحدة، وما تم لشعوبها من إبادة.. لأننا سنرى، أن هذه الشعوب باقية على قيد الحياة، وأن أهلها فيها.. وأن هذه الحروب لا وجود له إلا في التوراة وعلى الورق، تماما كالتعبير الصيني المعاصر، الذي يتحدث عن "نمور الورق".
وبعد هذه التفاصيل، وبعد عبارة "لم يبق منهم شاردا" التي تكررت في كل الحروب، تلخص التوراة الموقف الحربي، بأن يشوع ضرب "كل أرض الجبل والجنوب والسهل والسفوح وكل ملوكها، ولم يبق منهم شاردا بل حرَّم كل نسمة كما أمر الرب وأخذ يشوع الملوك وأرضهم دفعة واحدة لأن الرب إله إسرائيل حارب عن إسرائيل"… أما الملوك الخمسة الأوائل الذين بدأوا المعركة فأولئك قد أمر يشوع بقتلهم ووضع بنو إسرائيل أرجلهم على أعناقهم وعلقوهم على الأخشاب حتى المساء ثم طرحوهم في المغارة ووضعوا حجارة على فمها.
وبعد أن قتل يشوع الملوك وشعوبهم واستولى على أراضيهم ومدنهم، وإذا بالإصحاح الحادي عشر يبدأ الحرب من جديد مع الأموريين والكنعانيين واليبوسيين والحثيين والفرزيين واليبوسيين ومع كل جيوشهم ومعهم "شعب غفير كالرمل الذي على شاطئ البحر، ومعهم الخيل ومركبات كثيرة جدا.. ولكن بني إسرائيل ضربوهم حتى لم يبق منهم شارو وأحرقوا مركباتهم بالنار ولم يبق نسمة ونهب بنو إسرائيل لأنفسهم كل المدن والبهائم التي فيها… وأخذ يشوع كل تلك الأرض الجبل وكل الجنوب والسهل وأخذ جميع ملوكها وضربهم وقتلهم.. وأخذ يشوع كل الأرض حسب ما كلم الرب موسى وأعطاها يشوع ملكا لإسرائيل واستراحت الأرض من الحرب" وهذا كله هو سرد التوراة.
وسنرى أن "استراحت الأرض من الحرب" هي عبارة كاذبة فإن الأسفار التالية ستبدأ الكلام عن الحرب من جديد..
ويأتي الإصحاح الثاني عشر من سفر يشوع ليسرد قائمة بأسماء الملوك الذين قتلوا في الحرب ومواقع ممالكهم وحدودها، مملكة مملكة، "وامتلك بنو إسرائيل أرضهم" ثم ينتهي الفصل من غير ملل، في سرد أسمائهم، ليقول في النهاية " جميع الملوك واحد وثلاثون" . وبعد أن تنتهي التوراة من قتل الملوك والواحد والثلاثين، وإبادة الشعوب حتى آخر نسمة، وإحراق مدنهم المحصنة، ونهب أموالهم ومواشيهم… والاستيلاء على أراضيهم، بحدودها ومواقعها تنتقل التوراة إلى مهمة أخرى مقدسة هي مهمة تقسيم الأراضي وتسليمها لأصحابها الجدد، بطريقة القرعة كما يفعل أهل القرى حين يقسمون أراضيهم فيما بينهم..
ويخصص أحبار اليهود الإصحاح الثالث عشر لشرح هذه المهمة .. مبتدئاً القول: أن يشوع قد شاخ وتقدم في الأيام وأن أرضا كثيرة جدا قد بقيت "للامتلاك" .. وأن الرب سيطرد أهلها من أمام بني إسرائيل، وأمر أن يقسمها بالقرعة لإسرائيل ملكا كما أمر الرب، هذا الذي يسلب الناس أرضهم وديارهم وينهبها لبني إسرائيل!!
وتولى الإصحاح الرابع عشر بيان حصة "كالب" أحد الجواسيس الصقور الذين أرسلهم موسى للتجسس على أرض كنعان وعاد ليدعو إسرائيل إلى دخول كنعان ومحاربة أهلها وإخراجهم من أراضيهم.. ولذلك فقد جاء كالب هذا إلى يشوع يطلب إليه أن يخصه بجبل حبرون، الخليل، لأن موسى كان حلف له "بأن الأرض التي تطأها رجلك تكون نصيبا لك ولأولادك، إلى الأبد.." فأعطاه يشوع أرض حبرون حتى يعاونه الرب على "طرد أهلها منها وهم العناقيون".. وقد اعترفت التوراة، على غير وعي منها أن حبرون كان اسمها سابقا "قرية أربع".. وأربع هو "الرجل الأعظم في العناقيين" ومعنى ذلك أن هذه القرية هي ملك واحد من العناقيين، قبل الإسرائيليين!!" ويختتم الإصحاح كلامه بالعبارة العجيبة.. "واستراحت الأرض من الحرب".. وسنرى في الفصول التالية أن الأرض قد أنهكتها حروب وحروب..
أما الإصحاح الخامس عشر فقد كرسه أحبار التوراة لبيان القرعة التي جرت بين أسباط إسرائيل حسب عشائرهم، مبتدئة بحصة سبط بني يهوذا، وقد وردت حدود هذه الأراضي بالتفصيل الكامل، مع ذكر أسماء الجبال والوديان والسهول والمدن التي تدخل في هذه القرعة.
والإصحاح السادس عشر ذكر القرعة التي خرجت لبني يوسف فسرد الحدود والمواقع بغاية التفصيل، وكذلك فعلت الإصحاحات التالية إلى الإصحاح الثاني والعشرين.. وكل منها يسرد المدن والقرى والمواقع التي خرجت لهذا السبط أو ذاك، ولم ينقص التوراة إلا أن تلحق بها خريطة ملونة تبين "ملكية" أسباط بني إسرائيل نتيجة للقسمة والقرعة على جميع الأراضي التي كانت قبل ذلك ملكا خالصا متوارثا لأقوام يعيشون في واحد وثلاثين مملكة على رأسها واحد وثلاثون ملكا حسب إحصاء التوراة نفسها.
والقراءة السريعة لأسفار التوراة ربما توحي بأن بني إسرائيل قد انتصروا على أهل البلاد وطردوهم من أرضهم، وأن القسمة التي ذكرت تفاصيلها في الإصحاحات السالفة الذكر تعني أنه قد قُضي على أهل البلاد وأن الأرض قد دانت لبني إسرائيل وأصبحوا هم سادتها من غير معارض ولا منازع..
هذه الصورة التي تصفها التوراة غير صحيحة إطلاقا.. فرواية التوراة فيها كثير من الكذب والتزوير، والتوراة نفسها هي التي تكشف عن هذا الكذب والتزوير.. فإن أصحاب الكذب يقعون عادة في حبائل كذبهم دون أن يدروا.. وهذه هي شواهد التوراة.
أولا: يذكر الإصحاح الثالث عشر من سفر يشوع في صفحة كاملة "جميع الأراضي الكثيرة جدا الباقية للامتلاك".. يذكرها بمواقعها وحدودها وأسماء الممالك التي تتبعها، وقد وعد "الرب" بشأن هذه الأراضي الباقية "أن يطرد أصحابها منها من أمام بني إسرائيل"، كما أمر يشوع قائلا "إنما أقسمها بالقرعة لإسرائيل ملكا كما أمرتك".. وبهذا أصبح الأمر قاصرا على وعد بالطرد "وأمر" بقسمتها بالقرعة.. ولذلك فإن هذا الإصحاح يعترف في منتصفه بأن بني إسرائيل "لم يطردوا الجشوريين والمعكيين" لأنهم سكنوا "في إسرائيل إلى هذا اليوم" ومعنى ذلك أن إقامتهم امتدت قرابة ألف عام، إلى وقت كتابة التوراة، وهذا تم بعد ألف عام من هذه الأحداث التي نحن بصددها.