الفصـل السـادس
يا موسى لا تعبر الأردن..
لأنك عصيتني وخنتني
يا موسى لا تعبر الأردن..
لأنك عصيتني وخنتني
في جملة ما تثبته التوراة، أن أحبار اليهود الذين كتبوا أسفارها، إنما هم قصاصون من الدرجة الثالثة، ولا يقاسون بشيء إلى جانب المعاصرين من القصاصين اليهود المعروفين فيما كتبوا من روايات وصنفوا من سيِّر وتراجم، وكان الكثير منها أدبا رائعا جديرا بالقراءة والمتعة.
ولكن ما كتبه أحبار اليهود في أسفار التوراة عن خروجهم بني إسرائيل من مصر ودخولهم إلى فلسطين , يكشف عن ضعف في التأليف واضطراب في التفكير، وغفلة في التلفيق تفضح أصحابها، وتكشف جوانب الكذب والتزوير في اقصاصيهم من البداية إلى النهاية.
وكثير من القصص، أي قصص، خيال ليس له ظل من الواقع، سواء في الأحداث والأشخاص والأبطال، وكذلك في الخاتمة التي تنتهي بها القصة.. ولكن تلك القصص تظل متسلسلة بذاتها، آخذ بعضها برقاب بعض، وبدايتها تقود إلى نهايتها.
أما قصص التوراة، وخاصة بالنسبة إلى موسى وخروجه على رأس بني إسرائيل إلى سيناء بهدف الاستيلاء على فلسطين، فإنها تثير كثيرا من التساؤلات التي لا جواب لها، والشكوك التي يستحيل تفسيرها، ناهيك عن التناقضات الكثيرة التي تتضارب فيما بينها، بحيث يستحيل على العقل أن يقبل بأن تلك القصص هي من وحي السماء، ذلك بأنها هي من خيال أولئك القصاصين القدامى من رعاة المواشي. يخرفون، ويهرفون بما لا يعرفون.
ولو شئنا دليلا واحداً يثبت هذا الحكم لوجدنا أن ما أرادته التوراة من أمر موسى وخروجه من مصر إلى البرية، وما وقع لبني إسرائيل فيها لكفى ذلك كله أن يكون دليلا قاطعا بأن التوراة لا يمكن أن تكون من كلام الله، كما لا يكمن أن تكون أعمال موسى وأقواله، من أعمال نبي الله وأقواله.
وثمة دليل آخر يؤيد ما ذهبنا إليه.. ذلك هو كثرة الفجوات والسقطات التي لم ينتبه إليها الذين كتبوا التوراة، فجاء قصصهم منقوصا فيه فراغ هنا وهناك.. ولننتقل من التعميم إلى التخصيص.
في مجال التخصيص، يجد القارئ الصابر للقراءة، بعد أن يفرغ من قراءة الأسفار الخمسة الأولى من التوراة، أن موسى له أخ أسمه "هارون اللاوي"، وأن له أخت اسمها مريم النبية.
ونلاحظ هنا أن التوراة لم تذكر لنا شيئا عن مولد هارون ولا عن مولد أخته مريم.. وقد اقتصرت على ذكر مولد موسى وقصته، دون أن تُذكر له أخا أو أختا، مع أن سياق القصة يقتضي أن تذكر الأسرة وأولادها وسائر ما يتصل بها.
وعلى حين أن التوراة لم تبخل في سردها لقصة إبراهيم، أن تذكر الكثير من تفاصيل حياته وحياة زوجته سارة، وضرتها هاجر، ومولد ولديه إسماعيل واسحق، وما كان من أمور العائلة مع فرعون، وأبيمالك ملك الفلسطينيين، وشؤون الزوجات والسراري والزواج من العراقيات وأولادهما.. كما فصلنا في الفصول السابقة.
ولم تبخل التوراة كذلك أن تذكر بالتفصيل حياة إسحق ويعقوب وأولادهما، وما رافق زواجهما من قصص وطرائف لا نجد مثيلا لها إلا في أساطير اليونان، لولا أنها تقل عنها في جمال الأداء وسلاسة التعبير.
أما بالنسبة إلى سيرة موسى وأهل بيته، فقد اقتصرت التوراة على حكاية وضعه في الصندوق وإلقائه في النهر، ثم ما كان من أمر التقاطه من قبل إبنة فرعون واتخاذها له ولدا..
غير أن هارون، وهو طفل ذكر، فإن التوراة لم تذكر لنا كيف لم يذبحه الفرعون، وكيف نجا من مذبحة الأطفال، وأين تربى وأين عاش.. فكلها مجهولات لا تعرف من أمرها شيئا..
وكل ما نعرفه عن هارون أن التوراة، تقذف به على مسرح الأحداث من غير مقدمة ولا تمهيد كأنما هو يسقط فجأة من السماء إلى الأرض، فتلتقطه التوراة، وتحشره في سفر الخروج في سياق الحوار غير الطريف بين "الرب وموسى" حين عاد من برية سيناء وظهر له الرب ودعاه إلى أن يذهب إلى فرعون ويطلب إليه أن يطلق بني إسرائيل من مصر-بيت العبودية، إلى البرية ليعبدوا له..
وتقول لنا التوراة في سياق ذلك الحوار أن موسى نبه الرب قائلا: "اسمع أيها السيد (!!) لست أنا صاحب كلام، أنا ثقيل الفم واللسان" يريد بذلك أن يعتذر عن هذه المهمة فهو لا يحسن الكلام.
وهنا، هنا فقط، تقفز التوراة وتذكر لنا أسم "هارون اللاوي" ويروي لنا الإصحاح الرابع من سفر الخروج أن الرب قال لموسى "أليس هارون اللاوي أخاك، أنا أعلم أنه هو يتكلم، وأيضا هاهو خارج لاستقبالك , فحينما يراك يفرح بقلبه، فتكلمه وتضع الكلمات في فمه"!!
وهذه أول مرة يذكر فيها اسم "هارون اللاوي". وها نحن نراه على مقربة من جبل حوريب… خارجا لاستقبال موسى.. والتوراة لا تذكر لنا متى جاء وأين كان، وكيف عرف بعودة أخيه .. تلك كلها فراغات في القصة، تركها أحبار التوراة على فراغها، مكتفية بأن هارون هولاوي-يعني إسرائيلي.. وهذا هو كل ما يهم أحبار اليهود.
وتمضي التوراة في الإصحاح نفسه، لتضع أمام القارئ مفاجأة أخرى، غير مفهومة ولا معقولة.. وهذه المفاجأة تضعنا أمام قصة مفقودة الحلقات.
تقول التوراة بهذا الشأن.. "وحدث في الطريق في المنزل (؟) أن الرب التقاه (التقى موسى) وطلب أن يقتله (؟) فأخذت صفورة (امرأتة) صوانة وقطعت غُرْلة ابنها ومست رجليه.. فانفك عنه..حينئذ قالت عريس دم من أجل الختان"!!
ومفهوم هذه القصة أن الله قد عدل عن قتل موسى وانفك عنه، بعد أن قامت زوجته بختن ابنها بحجر صوان.. ومست رجليه.
وأحبار التوراة لا يذكرون لنا في سياق هذه القصة لماذا أراد الله أن يقتل موسى.. وأمن أجل أن ابنه لم يكن مختونا؟ أم لسبب آخر.. وهل القتل هو عقاب عدم الختان؟
ثم يأتي السؤال بعد ذلك وكيف عدل "الرب" القاتل عن القتل؟.. وتساؤلات أخرى لا داعي لسردها.. لأن الجواب الأكثر عقلا ومنطقا.. أن القصة كلها خرافة.. إحدى خرافات التوراة وما أكثرها..
وكما فاجأتنا التوراة بهارون "اللاوي" على النحو الذي ذكرناه فإنها تبرز لنا مفاجأة أخرى يحسن بنا أن نسميها مفاجأة "مريم النبية أخت هارون".
ويأتي ذكر هذه النبية بعد حكاية العبور، كما شرحتها التوراة، حين مشى بنو إسرائيل على اليابسة وسط البحر، والماء عن يمينهم ويسارهم.. ثم رد الرب البحر على المصريين فغرقوا أجمعين.
وتقول التوراة بعد ذلك أن موسى وبني إسرائيل احتفلوا بهذا النصر فرنَّموا ترنيمة الفرح "فأخذت مريم النبية أخت هارون الدف بيدها وخرجت جميع النساء وراءها بدفوف ورقص، وأجابتهم مريم: رنِّموا للرب فإنه قد تعظم.." (الخروج 15) وبهذا لم يصبح الرب عظيما إلا بعد نجاة بني إسرائيل وهلاك قوم فرعون.
وهذا هو أول ذكر لمريم أخت هارون.. ولا تذكر لنا التوراة متى أصبحت نبية وكيف ومتى ظهر لها الله وماذا أوحى إليها.
بل لم تذكر لنا التوراة متى ولدت هذه النبية .. وهل هي أخت هارون فقط، وليست أختاً لموسى.. وهل هي أخت لأب أو لأم ومن الأب ومن الأم؟
كل ذلك لا تتحدث عنه التوراة من قريب أو بعيد.. بل إن مريم لا يرد لها ذكر في التوراة بعد ذلك.. بعد حفلة الرقص والغناء إلى حين موتها (سفر العدد-20).
ثم تمضي أسفار التوراة في "تفصيل" وصايا "الرب" وشرائعه وأحكامه .. ومعظمها لا تخطر إلا في خيال الرعاة القدامى حين يكونون في الجبال والوديان … يشتهون ويتمنون .
ومن أطرف هذه الخيالات التي سردتها التوراة أن الرب طلب إلى موسى أن يصنع له تابوتا حتى يظل ساكنا في وسط بني إسرائيل وأن يكون هذا التابوت على هيئة صندوق، ويكون طوله كذا، وعرضه كذا، وأن يكون من خشب السنط وأن يكون مغشى، من الداخل والخارج.وأن يكون وأن يكون إلى آخر المواصفات التي استغرقت من التوراة صفحات وصفحات. (الخروج-25).
ثم تتحدث التوراة عما يجب أن يلبسه الكاهن، وهو من سلالة هارون أخي موسى، وعن الأجراس التي تكون في أسفل ثوبة وأن على الكاهن أن يهز ثوبه حتى يسمع الرب الأجراس حين دخوله أمام الرب وحين خروجه.. لئلا يموت، والموت للكاهن.. أو "رب" لا ندري، فإن الإصحاح الثامن والعشرين من سفر الخروج الذي يذكر هذه الخرافات غير واضح بهذا الشأن ولا يقول لنا من الذي يموت الرب أو الكاهن أو كلاهما معا..
أضف إلى ذلك أن تلك الأحكام تفرض على الكاهن أن لا يصعد على درج المذبح حتى "لا تنكشف عورته أمام الرب" ويكفينا ما ذكر عن سرد بقية الخرافات.. إلا خرافة واحدة تغرينا بأن نشير إليها ولو إشارة عابرة.
خلاصة هذه الخرافة فيما تروي التوراة أن الرب قد أمر بني إسرائيل قائلا :" لا تأكلوا جثة ما، تعطيها للغريب الذي في أبوابك فيأكلها أو يبيعها لأجنبي، لأنك شعب مقدس للرب إلهك" .. (سفر التثنية الإصحاح الرابع عشر).
وهذا هو غاية الطغيان والتعالي على الأجنبي أن يعطى الجثة ليأكلها أو يبيعها.. أما الإسرائيلي فلا يأكلها لأن بني إسرائيل شعب مقدس والشعوب الأخرى نجس في نجس.
تلك أحكام الإنسان، أما أحكام الحيوان فهي أغرب وأعجب، فإن إحدى هذه الأحكام تنص أنه إذا نطح ثور إنسانا أو ثوراً، فإن الثور الناطح "يرجم ولا يؤكل لحمه" (الخروج –21) ولم تتكلم التوراة عن الثور المنطوح بعد رجمه إذا كان يؤكل لحمه أو لا يؤكل.. ولم تتكلم كذلك عن الإنسان المنطوح ما هو الحكم في جثته.. لعل الحكم هو ما ذكرته التوراة آنفا. لا يأكلها الإسرائيلي ولكن يعطيها للغريب لبيعها للأجنبي!!
وما من شك أننا لو قارنا بين الشرائع التي وضعها قدماء المصريين في وادي النيل أو حمورابي الرافدين لوجدنا مبلغ التدني الذي كان عليه الفكر الإسرائيلي في ذلك العهد.
وهذا الذي اقتبسناه من أحكام التوراة ينم عن فكر بدائي موغل في البدائية ولا يمكن أن يرقى إلى الله، ولا يمكن أن ينسبه إليه إلا رعاة البوادي الجاهلون لحقائق الحياة.
بل إن هذه النصوص المتعلقة بالجثث والثيران لا تصدر إلا عن مستوى دون مستوى البادية.. فإن الرعاة القدامى الذين وصلت إلينا أخبارهم يعرفون كيف يتعاملون مع الثور النطَّاح دون أن يرجموه.. وأن الجثة مكانها تحت التراب لا تعطي للغريب.. لا يبيعها لأحد، ولا يأكلها أحد.
وكائنا ما كان الأمر، فإنه تحت هذا الركام من الخرافات والترهات اليهودية تكمن حقيقة كبرى، قل أن يلتفت إليها القارئ وهو يعبر في التوراة من خرافة إلى خرافة.
هذه الحقيقة الكبرى هي التي تفسر لنا كثيرا من مغلقات رحلة الخروج التي "قام بها بنو إسرائيل من مصر عبر سيناء ومنها إلى فلسطين".
وقد ركزت التوراة منذ البداية أن خروج بني إسرائيل كان "لتحريرهم من بيت العبودية" في مصر ليعبدوا الرب في البرية.
ولكن السبب الحقيقي هو غير ذلك بالمرة.. فلم يكن التحرير هو الهدف، ولا عبادة الرب هي السبب..
السبب هو الحرب من أجل الحرب.. والهدف هو العدوان من أجل العدوان.. وقد يبدو هذا الكلام غريبا لأول وهلة، ولكن التوراة نفسها تقودنا إلى هذه الحقائق بكل يسر ووضوح، وها نحن نجد مقدمات الدليل في الإصحاح الثاني من سفر الخروج حيث تروي التوراة "أن الله سمع صراخ بني إسرائيل وأنينهم من استعباد الفرعون لهم".. ثم تقول بعد ذلك أن "الله تذكر ميثاقه مع إبراهيم وإسحق ويعقوب"-وهو الميثاق الذي يمنح فلسطين إلى بني إسرائيل-كما ورد في سفر التكوين.
وسنترك أمر هذا الميثاق إلى فصل لاحق لنثبت بطلانه.. ويكفينا الآن أن نشير أن التوراة قد أرادت أن تنقل الميثاق من الوعد اللفظي إلى مرحلة التنفيذ.
حكاية العبودية والسخرة التي فرضها الفرعون على الإسرائيليين هي القصة التي قصمت ظهر البعير، وهي السبب الظاهري لتبرير مرحلة الخروج من مصر والزحف إلى فلسطين.. تماما كما فعل اليهود بعد ذلك بأربعين قرنا حينما قامت النازية بمذابحها البشعة مع اليهود في ألمانيا وفي أروربا الغربية.
وكما استغلت الدعاية الصهيونية "التعذيب" اليهودي على أيدي هتلر، وحملوا الألوف من اليهود للهجرة إلى فلسطين، فقد استغل أحبار اليهود "عبودية" الفرعون ليستنفروا بني إسرائيل للخروج من مصر والزحف على فلسطين وإبادة الشعب الذي يقيم فيها.
ولم تتردد التوراة أن تقول ذلك بكل صراحة ووضوح، كما لم يتردد أحبار اليهود أن يكتبوا ذلك على لسان الرب كذبا وزورا: فقد جاء في الإصحاح الثالث من سفر الخروج أن الرب قال لموسى:" لقد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم … وعلمت بأوجاعهم فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين وأصعدهم-أخرجهم-من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة إلى أرض تفيض لبنا وعسلا.. إلى مكان الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين".. وهذه تشمل أرض فلسطين وما جاورها..!!
وواضح من هذا الكلام أن الأمر يتعدى إنقاذ بني إسرائيل من العبودية، إلى هدف آخر.. وهو احتلال أرض جيدة واسعة- أرضك مسكونة من أقوام آخرين ذكرهم بالإسم واحدا بعد واحد؟
هذا على حين أن مصر أجود أرضا وأوسع مساحة.. ولكن الأمر عدوان .. إن التوراة وفي نفس الإصحاح والسفر تكرر العبارة عن أرض كنعان مرة ثانية بألفاظها واسماء الأقوام إياهم.
وتأتي بعد ذلك الخطوة الثانية في مرحلة التنفيذ على يد بني إسرائيل .. فتقول التوراة أن الرب قال لموسى: قل لبني إسرائيل سأدخلكم إلى الأرض التي أعطيت لإبراهيم. وأعطيكم إياها ميراثا. ولكن بني إسرائيل "لم يسمعوا لموسى من صغر النفس ومن العبودية القاسية" (الخروج –6).
ومعنى هذا الكلام ببساطة أن بني إسرائيل قد رفضوا القيام بهذه المغامرة، لأن نفوسهم كما تقول التوراة قد صغرت بسبب قسوة العبودية.. أي أنهم لم يقدروا على الخروج وعلى الحرب.. وأنهم يؤثرون البقاء في خدمة المصريين كما أشارت التوراة فيما بعد.
وتأتي بعد ذلك المرحلة الثالثة من التنفيذ .. فتحدثنا التوراة أن بني إسرائيل قد خرجوا في الليل بعد أن أطلقهم فرعون، ثم تكشف التوراة عن سر له دلالته على أهداف المسيرة وموقف بني إسرائيل منها, كما تفضح تخاذل اليهود ومخاوفهم من التوجه إلى فلسطين، وهنا نقرأ في الإصحاح الثالث عشر من سفر الخروج عبارة واضحة صريحة تدين رحلة الخروج كلها، وتكشف عن خوف بني إسرائيل من الحرب ولو كانت من أجل الوصول إلى فلسطين.
وتقول العبارة: وكان لما أطلق فرعون الشعب "أن الله لم يهد بني إسرائيل في طريق أرض الفلسطينيين مع أنها قريبة، لأن الله قال لئلا يندم الشعب إذ رأوا حربا ويرجعوا إلى مصر".
وما نحسب أن هناك كلاما أوضح من هذا الكلام… الطريق إلى فلسطين قريبة، ولكن الله يخشى أن يندم بنو إسرائيل ويرجعوا إلى مصر إذا رأوا أنهم ذاهبون إلى الحرب. ولذلك ما هداهم الله إلى الطريق.. بل إن الله، كما تواصل التوراة كلامها "أدار الشعب في طريق برية بحر سوف" أي في طريق آخر ليس قريبا إلى فلسطين.
ونخلص من ذلك كله أن أحبار التوراة الذين لفقوا مسيرة الخروج قد جعلوا الرب يضلل بني إسرائيل عن الطريق القريبة إلى فلسطين حتى لا يندموا ويرجعوا إلى مصر فأدار وجوههم في اتجاه آخر، وبهذا طالت عليهم الطريق، وتدخلت في خطة الخروج عوامل متعددة لم تكن في الحسبان.
ويحسن بنا قبل أن نتابع خطة الخروج في مسيرتها الجديدة أن نتعرف على الأقوام الذين ذكرتهم التوراة، فهؤلاء هم هدف الخروج، وسيكونون ضحية العدوان.. وأسماؤهم غريبة علينا في هذه الأيام ولكن التاريخ يسعفنا في التعرف عليهم.. ولو بإيجاز..
الكنعانيون نسبة إلى جدهم الأعلى كنعان، من أقدم القبائل العربية التي استوطنت فلسطين ولذلك سميت فلسطين أرض كنعان كما تذكر التوراة مرارا، نزح إليها العرب من مواطنهم الواقعة على الساحل الشرقي للخليج العربي، وهم في الأصل ينحدرون من قبيلة عربية كبرى تحركت في إحدى الهجرات التاريخية الشهيرة من الجزيرة العربية، والمراجع التاريخية التي تثبت ذلك متوافرة، بدءا بالمؤرخ هيرودوتس واسترابو إلى الطبري، إلى المؤرخين المعاصرين من العرب والفرنجة، إلى عالم المصريات المعروف جيمس هنري برستد.
وما هو جدير بالتنويه أن مراسلات تل العمارنة التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد تقول أن قدماء المصريين كانوا يطلقون لفظ كنعان على جميع السواحل السورية..
وقد بنى الكنعانيون مدنا وقرى كثيرة لا تزال أسماؤها الكنعانية باقية إلى الآن، ومن المعروف أنه كانت للكنعانيين حضارة متقدمة في مجال الزراعة والصناعة وقد امتد تاريخهم في البلاد قرونا عديدة.. ومن هنا فإن التوراة تردد اسم أرض كنعان عدة مرات في العهد الذي دخلها إبراهيم.. فهي أرض الكنعانيين قبل إبراهيم، وقبل الميثاق الذي تزعم التوراة أن الرب قد وعد به أرض كنعان ميراثا له ولأبنائه من بعده.
ومما تجدر الإشارة إليه أن بني إسرائيل- المهاجرين الأوائل إلى مصر، عاشوا فيها أربعماية وثلاثين عاما كما تذكر التوراة.. وكانت تلك الفترة ذروة ازدهار واستقرار في أرض كنعان، وكانت ذات علاقات وطيدة مع وادي النيل ووادي الرافدين معا.
واليبوسيون هم إحدى القبائل الكنعانية وينسبون إلى جدهم الأعلى يبوس.. وكانت حاضرتهم هي مدينة القدس، وسميت يبوس باسمهم لأنهم هم الذين بنوها وقد ورد اسمهم واسمها عدة مرات في التوراة قبل أن يصبح اسمها فيما بعد أورسالم، أو إيليا، أو بيت المقدس.. وحينما دخل إبراهيم إلى فلسطين، كان "ملكي صادق"،كما تذكر التوراة هو ملك القدس وهو أول ملك عربي في فلسطين.
والحويون هم كذلك إحدى القبائل العربية التي استوطنت فلسطين وكانت منازلهم في مدينة نابلس ثم انتشروا في شمال فلسطين حتى جبل الشيخ. وقد نزل فريق منهم في شمال القدس وأنشأوا عددا من القرى.
والفرزيون، كذلك من القبائل العربية التي استوطنت فلسطين، وكانوا يسكنون القرى، ويرى بعض المؤرخين أنهم فرع من الكنعانيين.
أما الأموريون فهم من القبائل العربية التي هاجرت من الجزيرة العربية، وأسسوا لهم دولة في منطقة الفرات الأوسط، ثم اجتاحوا العراق وأسسوا الدولة البابلية الأولى.. والأموريون نزلوا جنوبي فلسطين وشواطئ البحر الميت وكان لهم ملوك وأسسوا مدنا ذات شأن في التاريخ العربي.
أما الحثيون فإنهم من الشعوب الآرية.. ولكن جماعات منهم استوطنت في بعض قرى فلسطين، ولا تزال بعض المدن تحمل أسماءهم إلى يومنا هذا.
وتذكرة التوراة أن إبراهيم لما جاء إلى حبرون-الخليل-كان بنوحث مقيمين فيها.. كما تذكر أن أورياالحثي كان أحد قادة الجيش الإسرائيلي في عهد داود.
يقودنا هذا التلخيص السريع إلى أن أرض كنعان لم تكن أرضا خالية بل كان أصحابها فيها أجدادا عن أجداد، ومن أحفاد إلى أحفاد، وكل ذلك كما تعترف به التوراة نفسها.
وكائنا ما كان تاريخ أولئك الأقوام، فإن الحقيقة كما تقول التوراة، أن هؤلاء الأقوام كانوا يسكنون فلسطين، التي عرفت باسم أرض كنعان.. كانوا يسكنون بها قبل إبراهيم وقبل أن تطأ قدماه أرض البلاد… وكانوا كذلك يسكنون بها قبل أن يظهر "الرب" لموسى في سيناء.. وقبل أن يطلب إلى موسى إخراج بني إسرائيل من مصر " ليصعدهم إلى أرض جيدة واسعة تفيض لبنا وعسلا".
وبعد أن رسمت التوراة الهدف من رحلة الخروج، وعلى لسان الرب، راحت تفصل خطة الحرب وتنسبها كذلك إلى الرب، وأنه هو الذي يتولى تنفيذها، فإن "الرب سيحارب عنكم" كما رددت التوراة مرة بعد مرة.. وأول ما نجد في هذا الصدد ما جاء في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر الخروج وفيه يقول الرب لبني إسرائيل "ها أنا مرسل ملاكا أمام وجهك ليحفظك في الطريق وليجيء بك إلى المكان الذي أعددته .. وإن ملاكي يسير أمامك ويجيء بك إلى الأموريين والحثيين والفرزيين والكنعانيين والحويين واليبوسيين فأبيدهم.. وأزعج جميع الشعوب الذين عليهم وأعطيك جميع أعدائك مدبرين، وأرسل أمامك الزنابير فتطرد الحويين الكنعانيين والحثيين من أمامك … وتملك الأرض.. ولا يسكنون في أرضك".
وبكلمة بسيطة فإن الرب الذي أعد خطة الخروج لبني إسرائيل، هو الذي سيتولى تنفيذها وسيقودها إلى البلاد وسيتولى أبادة الأقوام الستة في أرض كنعان، ويعمل على إزعاجهم وطردهم من أراضيهم ليمتلكها إسرائيل، ولا يسكنون معهم فيها.
ويتساءل أي عبد من عباد الله.. ولماذا يقدم الرب على هذه الإبادة الجماعية تنزل بتلك الأقوام من أجل أن يسكن فيها بني إسرائيل؟.. حقا إنها حرب إبادة جماعية يشنها "الرب" على أقوام من عباده يخرجهم من أرضهم حتى تكون لبني إسرائيل خالصة من دون العالمين أجمعين.
ثم يتساءل المرء، وهل فعل الرب مثل هذا الفعل في أية أمة، من أجل أية أمة، وفي أية أرض من أرضه الواسعة، في أي عهد من عهود التاريخ؟
فإذا كان الجواب أن الله لم يفعل مثل ذلك، وهو لم يفعل قطعا، فإذن تكون قصة التوراة خرافة كبرى وتكون المصيبة الكبرى فيها أنها أصبحت عقيدة دينية أنزلت نكبات كبرى تعد بحق من أكبر نكبات الإنسانية في التاريخ.
وشأن كل خطة عسكرية وخاصة إذا كانت عدوانية، كان لا بد لها من مقدمات وحركات تجسس واستطلاع حتى يكتب لها النجاح، وتتحقق خطة الإبادة وطرد أهل البلاد من أرضهم وإحلال بني إسرائيل على أنقضاضهم وفي منازلهم .. وهذا ما تحدثت عنه التوراة فعلا.
تروي لنا التوراة في الإصحاح الثالث عشر من سفر العدد أن الرب كلًّم موسى قائلا "أرسل رجالا ليتجسسوا أرض كنعان التي أنا معطيها لبني إسرائيل" ثم أوردت التوراة أسماء الجواسيس واحدا واحداً مع أسماء القبائل التي ينتسبون إليها. فكانوا اثني عشر جاسوسا بعدد أسباط بني إسرائيل.
وقد أوردت التوراة نص أوامر موسى بالتجسس، فقد قال لهم "اصعدوا من هنا إلى الجنوب واطلعوا إلى الجبل وانظروا الأرض ما هي، والشعب الساكن فيها أقويّ هو أم ضعيف. قليل أم كثير؟ وكيف هي الأرض التي هو ساكن فيها أجيدة أم رديئة؟ وما هي المدن التي هو ساكن فيها؟ أمخيمات أم حصون، وكيف هي الأرض أسمينة أم هزيلة؟أفيها أشجار أم لا؟ وتشددوا فخذوا من ثمرة الأرض. وكانت الأيام أيام باكورات العنب".
وتقول التوراة أن مجموعة الجواسيس ذهبوا وتجسسوا الأرض حتى مدخل حماة وأتوا إلى حبرون-الخليل –وكان فيها فلان وفلان وفلان وبنو عناق.. وأتوا وادي أشكول وقطعوا من هناك عنقودا واحدا من العنب حملوه بالدقرانة على أكتاف أثنين من الجواسيس مع شيء من الرمان والتين ورجعوا من تجسس الأرض بعد أربعين يوما.
وهكذا فقد كانت عملية تجسس في منتهى الدقة والتفصيل، وموسى كما عرفنا في الفصول السابقة كان له موقع ممتاز في جيش فرعون.. والرب كما وصفته التوراة في أكثر من موضع فإنه "إله حرب". فلم لا تكون هذه الخطة الحربية بارعة وكاملة، ومفصلة إلى أقصى حدود التفصيل؟
وقد نجحت خطة التجسس فعلا، فقد عاد الجواسيس بأحسن الثمار من البلاد، وبأحسن المعلومات عنها.. وقالوا في تقريرهم كما أوردته التوراة "حقا إنها تفيض لبنا وعسلا وهذا ثمرها، غير أن الشعب الساكن في الأرض معتز، والمدن الحصينة عظيمة جدا.. وأيضا قد رأينا بني عناق هناك، والعمالقة ساكنون في أرض الجنوب والحثيون واليبوسيون والأموريون ساكنون في الجبل والكنعانيون ساكنون عند البحر وعلى جانب الأردن".
والتقرير أمين وصادق حقا، فقد أورد أسماء سكانها، ووصف مدنها الحصينة واعتزاز أهلها بها، وسرد أسماء القبائل أصحابها واحدة واحدة.
أما بالنسبة لدخول أرض كنعان حربا ومقاتلة أهلها، فقد انقسم الجواسيس إلى مجموعتين، الأولى مجموعة الحمائم لا توافق على الحرب وهذه المجموعة مؤلفة من عشرة أعضاء قالوا :" لا نقدر أن نصعد إلى الشعب لأنه أشد منا بأسا وأشاعوا بين الإسرائيليين أن الأرض قبيحة تأكل سكانها. وجميع شعبها أناس طوال القامة.. وقد رأينا هناك الجبابرة بني عناق". (سفر العدد-الإصحاح13).
والمجموعة الثانية وهم جماعة الصقور تدعو إلى الحرب، وهما كالب ويشوع قالا "إننا نصعد ونملكها لأننا قادرون عليها.. والأرض جيدا جدا، ولا تخافوا من شعب الأرض لأنهم خبزنا والرب معنا ولا تخافوهم ." (سفر العدد14).
ذلك كله كلام التوراة عن الحرب.. وعن أرض كنعان وأنها خبزإسرائيل تنتظر آكلها، وهنا أصيب بنو إسرائيل بالفزع من الحرب، تماما كما قالوا لموسى في بداية مسيرة الخروج. ويقول التوراة… وبكى بنو إسرائيل تلك الليلة.. وهمّوا بأن برجموا موسى وأخاه هارون بالحجارة.
وكان أن ساد الاضطراب صفوف بني إسرائيل، وقع موسى في حيرة كبرى، وأصبحت مسيرة الحرب مهددة بالفعل فقد أعلن اليهود تمردهم وعصيانهم، وكان لا بد له أن يتدخل الرب فهو الذي يحارب عن إسرائيل ولا بد أن يتدخل لإنقاذ الموقف، فلم يكن أمام الرب من بديل إلا أن يترك مهمة الدخول إلى فلسطين إلى جيل آخر.. وتقول لنا التوراة أن الرب قضى بأن هذا الجيل الشرير، المتمرد العاصي، جيل العشرين عاما فصاعدا لا يرون الأرض، وأنهم يتيهون في البرية أربعين عاما وفيها يموتون وفيها يفنون، ويموت معهم جماعة الحمائم العشرة-الجواسيس الذين عارضوا في الحرب- وهكذا فقد حل الوباء بذلك الجيل الشرير ودفنوا في البرية ونشأ جيل جديدا.
أما كالب ويشوع وهما من جماعة الصقور فقد قضى الرب أَنهما يعيشان ويدخلان الأرض كما تروي التوراة.
وكان تمرد بني إسرائيل طبيعيا وفطريا، ذلك أنهم حين استمعوا إلى تقرير الجواسيس الذين يمثلون جميع أسباطهم، وحينما تبين لهم أن الأرض مسكونة بأهلها، وأن فيها مدنا حصينة، وأن سكانها أهل حرب ويعتزون ببلادهم، إلى آخر ما جاء في التقرير، كان من الطبيعي في ضوء ذلك كله أن يترددوا في الإقدام على الحرب، فأحجموا عن الدخول إلى أرض لا يعرفونها ولا يملكون فيها شبرا واحدا.
غير أن أحبار اليهود الذين كتبوا التوراة، قد أرادوا غير ذلك، فراحوا يقصون مسيرة الحرب بروح سافرة من العدوان والإرهاب والنزوع إلى الإبادة.. كما نرى في معظم أسفار التوراة.
ومضت التوراة تتحدث عن نشوء جيل جديد من بني إسرائيل، مهيأ للحرب والعدوان، بعد أن فني الجيل السابق المترد في القتال، المتخوف، من العواقب وأمامه شعوب مستعدة للقتال والدفاع عن أرضها ومدنها وقراها..
وفي هذه الحقبة تذكر التوراة أن مريم-أخت موسى-ماتت في برية صين ودفنت هناك (سفر العدد-20)وبذلك أسدلتْ الستارعلى شخصية أخرى من آل موسى دون أن يُكتب لها الدخول إلى فلسطين، كما لا يكتب لأخويها موسى وهارون أن يدخلاها، فيما ستروي التوراة بعد ذلك في الإصحاح نفسه.
فقد وصل بنو إسرائيل، كما تقول التوراة،و إلى جبل هود في طرف أرض أدوم، وهناك مات هارون-أخو موسى- وكان ابن مئة وثلاث وعشرين سنة، وقال الرب :"إن هارون لا يدخل الأرض التي أعطيت لبني إسرائيل لأنكم عصيتم قولي"، ودفن هارون في رأس الجبل. "وبكاه بيت إسرائيل ثلاثين يوما" (سفر العدد-20) وكان هذا الكلام تمهيداً غير مباشر لنفس المصير الذي سيلقاه موسى نفسه.
وأخذت التوراة بعد ذلك تروي أنه نشأ جيل من بني إسرائيل، واستمر "الرب"وموسى في مسيرة الحرب. ويجد القارئ نفسه أمام صفحات وصفحات تسرد أخبار بني إسرائيل وتنقلاتهم من موقع إلى موقع إلى أن أصبحوا قريبا من شرق الأردن حيث نزلوا في وادي الحسا ومنه إلى الموجب، وأنهم حاربوا الأموريين واستولوا على أراضيهم .. ثم تأتي بعد ذلك مهاجمتهم لأهل مدياِن واستيلاؤهم على أرضيهم.
وفي هذه الحرب مع المديانيين، تذكر التوراة (في سفر العدد-الإصحاح) أن بني إسرائيل قد لجأوا إلى كل أنواع الوحشية والهمجية، فقد قتلوا من المديانيين "كل ذكر" وقتلوا فوقهم ملوكهم الخمسة. ذكرت أسماءهم واحدا واحدا، وسبوا نساءهم "وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم ومواشيهم وأملاكهم وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار". ذلك هو الإرهاب اليهودي القديم نراه يتجدد بعد قرون وقرون !!
وراحت التوراة بعد ذلك تسرد أخبار المناوشات بين بني إسرائيل والقبائل الأخرى المنتشرة على أطراف الصحراء، وموسى يراسلها يطلب إليها السماح له بالمرور في أراضيها فلا يجد منها إلا صدودا أو رفضا وينتهي الأمر بمحاربتها، وتصبح البلاد كلها ساحة حرب ومعركة بعد معركة.
وتصف التوراة بعد ذلك، كيف أصبح بنو إسرائيل على مقربة من أرض كنعان، ولا يبقى إلا أن تدخل التوراة في مرحلة الهدف الأكبر من مسيرة الخروج، وهو اجتياح أرض كنعان، وطرد أهلها منها، ومن ثم تقسيم "الأرض" على الأسباط اليهودية، تقسيما بالقرعة حتى يكون التوزيع "عادلا ومنصفا" .. فلا يأخذ هذا الفريق أكثر من الفريق الآخر.. وعدالة بين الأسباط فيما بينهم، وظلما لأهل البلاد أصحاب الأرض الشرعيين.
وما أن وصل بنو إسرائيل إلى عربات مؤآب عند أردن أريحا، بدأ "الرب" يصدر أوامره لتنفيذ المرحلة النهائية.. وهنا تقول التوراة أن الرب كلم موسى قائلا، وعلى القارئ أن يقف طويلا أمام كل كلمة وكل عبارة..
"كلِّم بني إسرائيل وقل لهم أنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان، فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم،.. تملكون الأرض وتسكنون فيها لأني قد أعطيتكم الأرض لكي تملكوها. وتقتسمون الأرض بالقرعة حسب عشائركم، وإن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم يكون الذين تستبقون منهم أشواكا في أعينكم ومناخس في جوانبكم" (سفر العدد-33) ثم تذكر التوراة بعد ذلك تخوم أرض كنعان من أين تبدأ، وكيف يدور الحد من جبل إلى واد بالأسماء والتفاصيل، كأن "الرب" قد اصبح مساحا يضع الحدود بكل دقة وعناية.. ثم أن الرب قد أمر بأن يقوم يشوع بن نون وابنه الكاهن ومعهم رؤساء الأسباط بمهمة القسمة والقرعة، تماما كما يفعل أهل القرى فيما بينهم بأراضيهم التي توارثوها عن آبائهم وأجدادهم.
ولو أن القارئ قد أخذ نفسه بالصبر ليقرأ هذه الحدود وأسماء المواقع،ومعظمها قائم بأسمائها حتى الآن، يستطيع أن يصل إلى اليقين القاطع بأن هذه الحدود هي من وضع أناس عرفوا الأرض شبرا شبرا، كتبوا على الطبيعة، وهم في الأرض نفسها، كما نرى في فصل لاحق، وأنه لا شأن للسماء بها.. ولا يمكن أن تكون من وحي السماء.
وهنا يتساءل العقل والمنطق : وهل في أي كتاب سماوي آخر سجل بمواقع الحدود للشعوب الأخرى في العالم .. وهم يزيدون في زماننا هذا عن ماية وخمسين شعبا ممثلين في الأمم المتحدة وكلهم لهم حدود لم يذكرها الله في أي كتاب.
تكشف التوراة فلماذا تكون إسرائيل هي الفرد الأحد نزلت حدودها من السماء وضمها كتاب مقدس.
وتكشف التوراة بعد ذلك بأن الرب الذي أمر بالعدوان على الشعب في كنعان، وسلب أراضيه وقسمتها بالقرعة على بني إسرائيل.. هذا الرب نفسه قد أمر، كما تروي التوراة، بعد التعرض لشعوب أخرى في المنطقة، وتركهم في أراضيهم… لسبب ذكرته التوراة ، بصراحة لا مواربة فيها.
ومن الخير أن نترك التوراة نفسها تتحدث عن هذا الجانب "الإنساني الرحيم" الذي أمر به الرب لبني إسرائيل ليتقيدوا به..
وهنا تقول التوراة، أن موسى قد أوصى الشعب، بأمر الرب، قائلا: "أنتم سائرون بتخم-حدود-أخوتكم بني عيسو الساكنين في سعير.. لا تهجموا عليهم لأني لا أعطيكم من أرضهم ولا وطأة قدم، لأني قد أعطيت لعيسو جبل سعير ميراثا.. طعاما تشترون منهم بالفضة لتأكلوا، وماء أيضا تبتاعون منهم بالفضة لتشربوا.." ومن هو هذا عيسو الذي أمر الرب بحمايته وعدم التعرض له..
إن عيسو هو الإبن الأكبر ليعقوب-إسرائيل.. ولأنه إسرائيلي فليس لبني إسرائيل أن يأخذوا منه طعاما أو ماء إلا بالفضة.. وأن لا يأخذوا من أرضه موضع قدم..
أما أرض الأقوام الآخرين فإنها تكون حلالا لبني إسرائيل، تنهبها لنفسها، فتلك هي إرادة "الرب".
وكذلك فقد حرَّم الرب على بني إسرائيل أن يقتربوا من أراضي بني لوط كما حرم عليهم أن يقتربوا من أراضي عيسو، لأن لوطا ابن أخي إبراهيم فهو من الأسرة التي ينتمي إليها الإسرائيليون.. وهذه الأسرة محرمة على الغير،والغير حلال لها..
ويتضح من نصوص التوراة هذه، أن "الرب" رب إسرائيل، يدعو إلى محاربة الغير جميعا ونهب أراضيهم وخيراتهم، ولكنه ينهاهم أن يقتربوا من أي قوم ينتسبون إلى بيوت بني إسرائيل من قريب أو بعيد، وذلك هو قمة العنصرية البغيضة، والقصة أبغض ما فيها أنها بأمر "الرب" كما تقول التوراة.
والغريب العجيب أن يكون ذلك كله في صلب ديانة توصف بأنها إحدى الديانات السماوية الثلاث، "والرب" فيها لا هم له إلا أن يصون إسرائيل ويحفظها .. وأن يبيد بقية الشعوب.. وها نحن نرى أن سفر القضاة، قد كرسته التوراة ليكون سجلا للدمار والهلاك لجميع الأقوام التي يتصدى لها بنو إسرائيل على حين أنه يكتب النجاة لأقوام آخرين يلوذون بصلة رحم أو نسب إلى بني إسرائيل.
وفي النهاية تأتي التوراة على ذكر آخر الأوامر الصادرة من موسى إلى بني إسرائيل، وكأنها الأوامر العسكرية التي يوجهها القائد العام قبيل ساعة الصفر.. ويبدأ الأمر قائلا :" اسمع يا إسرائيل. أنت اليوم عابر الأردن لكي تدخل وتمتلك شعوبا أكبر منك وأعظم، ومدنا عظيمة محصنة إلى السماء، قوما عظاما وطوالا.. بنى عناق الذين عرفتهم.. وسمعت من يقف في وجه بني عناق،، فأعلم أن الرب إلهك هو العابر أمامك، نارا آكلة، هو يبيدهم ويذلهم فتطردهم وتهلكهم سريعا كما كلمك الرب" (سفر التثنية-الإصحاح 9).
وبهذا أصبح الرب، كما تقول التوراة، هو الرب العابر، وهو النار الآكلة، مُهلِك الشعوب من وجه بني إسرائيل، وطارد الأمم من أوطانهم.
ثم تصل التوراة إلى الخاتمة الحزينة لحياة موسى، فتقول في سفر التثنية في الإصحاح الثاني والثلاثين (وقال الرب لموسى هو ذا أيامك قد قربت لكي تموت.. أصعد إلى جبل عباريم-جبل نبو الذي في أرض مؤآب الذي قبالة أريحا وانظر إلى أرض كنعان.. ومت في الجبل.. كما مات أخوك هارون في جبل هود.. لأنكما خنتماني في وسط بني إسرائيل.. فإنك تنظر الأرض و لكنك لا تدخل الأرض التي أنا أعطيها لبني إسرائيل".
ومات موسى ودفن هناك كما تصف التوراة، وما كلت عيناه ولا ذهبت نضارته وبكاه بنو إسرائيل ثلاثين يوما.
وهكذا كانت نهاية موسى ، محروما من الدخول إلى أرض كنعان، مغضوبا عليه من الله، خائنا لله هو وأخوه..
وقد انتقلت بقية المهمة في قيادة بني إسرائيل، إلى خادمه يوشع، الجاسوس الذي استطلع أحوال البلاد، وكان على رأس الصقور الذين نادوا بالحرب..
وتلك سيرة أخرى سنرى أنها حافلة بالخرافات، كما كانت سيرة السابقين واللاحقين من بني إسرائيل.
وهذه هي التوراة بأسعار أخباراها التي يتشدق بيجن رئيس وزراء العدو بكلماتها وعباراتها .
بل هذا هو موسى الذي استشهد به بيجن رئيس وزراء العدو في خطابه إلى الشعب المصري.. قالت عنه التوراة أنه عصى الله وخانه فحرَّم عليه دخول أرض كنعان.. فكيف تكون حلالا لبني إسرائيل، وحراما على بني إسرائيل..