الفصـل الثـاني
إسـرائيل يصـارع الـرّب
إسرائيل يصارع الرّب
وكما جاءت سيرة إبراهيم في التوراة نموذجا فذا في الأساطيرو الخرافات، نجد أن سيرة ولده إسحق وحفيده يعقوب تمثل إضافة ضخمة في مسلسل الأساطير والخرافات، أدنى بكثير من أن تكون كتابا سماويا مقدسا، أو مرجعا دينيا له جلاله، أو حتى سجلا تاريخياً يركن إليه في التعرف على تلك الحقبة الزمنية والموغلة في القدم… أجل إنها مجموعة من الخرافات والأساطير لا تنقصها إلا عذوبة الخرافات وسحر الأساطير.
ولقد رأينا في الفصل السابق كيف جاء مولد إسحق في تضاعيف الحوار بين الرب من جهة وإبراهيم وزوجته سارة من جهة أخرى, وما كان من أمرهما من الضحك على "الرب".. ثم كيف سافر إليعازر الدمشقي عبد إبراهيم في رحلة طويلة، وعاد مع "رفقة" لتكون زوجة لإسحق.. كل ذلك في قصص خرافي أفضى إلى النهاية السعيدة، بأن "أدخل إسحق رفقة إلى خباء أمه سارة حيث تزوجها وتعزى بها عن وفاة أمه".
ولم يبق على التوراة إلا أن تذكر لنا ماذا كان بين الزوجين في تلك الليلة السعيدة.. فمن عادة التوراة أن تذكر أن هذه المرأة عذراء .. وتلك المرأة لا تزورها "عادة النساء"، وغير ذلك من ساقط الأقاصيص!!
ثم تمضي التوراة في سرد حياة إسحق، وكأنما تكرر مرة ثانية سيرة إبراهيم في معظم تفاصيلها، بل أنه يكاد يبدو لنا أن أحبار اليهود الذين كتبوا التوراة لم يكن في خيالهم إلا "سيناريو" واحد ينهلون منه قصصهم بأبطالها وأحداثها.
والذين يملكون الصبر على قراءة التوراة، وعندهم الروية على متابعة ما فيها من التواءات واستطرادات يستطيعون أن يجدوا في سيرة إسحق تكراراً للأحداث التي وقعت لإبراهيم مرحلة مرحلة، وتكاد أن تكون العبارات والتبريرات والتفسيرات واحدة.
وأول ما يطالعنا في هذا الباب قول التوراة "أنه حدث جوع في الأرض فذهب إسحق إلى أبيمالك ملك الفلسطينيين في جرار… وظهر له الرب وقال له: "لا تنزل إلى مصر.. اسكن في الأرض التي أقول لك.. فأقام إسحق في جرار" (سفر التكوين الإصحاح 26)
وحين نعود إلى الوراء في سفر التكوين نفسه في إصحاح سابق نجد أن ما جرى لإسحق عن ارتحاله إلى جرار قد تم لوالده إبراهيم… وكذلك الحديث عن الأرض والنسل، فإنه معاد بكلماته وعباراته.
وتمضي التوراة بعد ذلك في الحديث عن "رفقة" امرأة إسحق فتضيف قائلة" وأهل جرار سألوا إسحق عن امرأته فقال هي أختي.. فقد خاف أن يقول هي امرأتي حتى لا يقتلوه من أجل رفقة لأنها كانت حسنة المنظر… وحدث أن أبيمالك أشرف من الكوة ونظر وإذا إسحق يلاعب رفقة امرأته, فدعاه وقال له… كيف قلت هي أختي… فقال إسحق لأني خفت أن يقتلوني .. وتعاظم إسحق حتى صار عظيماً جدا فكان له مواش من الغنم والبقر وعبيد كثيرون .. ومضى إسحق ونزل في وادي جرار ومن هناك ذهب إلى بئر السبع وهناك ظهر له الرب وقال: "له أباركك وأكثر نسلك".
ومرة ثانية، يلاحظ القارئ أن حكاية إسحق "وزوجته الجميلة" مع أبيمالك ملك الفلسطينيين هي نفس الحكاية التي سردتها التوراة عن إبراهيم وامرأته "الجميلة والحسنة المنظر جدا" مع أبيمالك ملك الفلسطينيين ومسرح الأحداث هو هو في جرار، والبطل هو هو ملك الفلسطينيين.. والتفاصيل هي هي عن المواشي والبقر والحمير والعبيد… والكذبة الكبرى واحدة: أن زوجة إسحق هي أخته .. تماما كما أن زوجة إبراهيم هي أخته .. أخته لأبيه لا لأمه.
وعلى ذلك فنحن نرى أن التوراة قد سردت في سفر واحد هو سفر التكوين، ضيافة إسحق وزوجته عند أبيمالك ملك الفلسطينيين في مسلسل واحد من الوقائع كما جرى لإبراهيم وزوجته في الضيافة نفسها.. ولكن بفارقين اثنين:
الفارق الأول: أنه في قصة إبراهيم وزوجته ذكرت التوراة أن أبيمالك "لم يكن قد اقترب من سارة" وقد أهملت التوراة ذكر هذه الواقعة في قصة إسحق وزوجته, هذا مع العلم أن التوراة لم يكن أمامها مرجع تعتمده في قولها أن أبيمالك قد اقترب أو لم يقترب من سارة.
والفارق الثاني: أن التوراة قد جعلت واقعة " الكوة" خاصة بإسحق وزوجته، وهي الكوة التي نظر منها أبيمالك إلى إسحق وهو يداعب زوجته مع أن إبراهيم وزوجته قد أقاما مدة طويلة في ضيافة أبيمالك ولم تجعل لهما نصيبا من المداعبة ولا كانت لهما "كوة" تسر الناظرين.
وتورد التوراة بعد ذلك حكاية الحبل والولادة، ونرى أن التوراة تعيد وتكرر. فها نحن نقرأ أن زوجة إسحق هي عاقر، كأمه سارة. وكذلك فإن التوراة تقول أن إسحق فعل كأبيه إبراهيم " فصلى إلى الرب من أجل امرأته رفقة.. فاستجاب له الرب فحبلت رفقة امرأته".