الفصـل الثـالـث
وأيـن أهل الـراين..
مـن أهـل الأردن؟
وأين أهل الراين من أهل الأردن؟
في الفصلين السابقين أمسكنا بتلابيب بيجن رئيس وزراء العدو، ودفعنا به إلى قاع التوراة بحثا عن سيرة إبراهيم، وابنه إسحق، وحفيده يعقوب لنرى موضع الصدق فيما زعمه في خطابه الموجه إلى الشعب المصري عن حكاية "أبينا المشترك إبراهيم" على حد تعبيره.
وقد استعرضنا في الفصل الأول سيرة إبراهيم وهجرته من العراق إلى سوريا إلى فلسطين، إلى مصر، ثم عودته إلى فلسطين، وما جرى له ولزوجته الجميلة سارة من أحداث مع فرعون مصر، ومع ملك الفلسطينيين، ثم ما كان بينه وبين "الرب" من حوار.. وأخيرا وفاته وزوجته في المدينة التي سميت باسمه… مدينة الخليل. من أعمال فلسطين.
وخرجنا من هذا العرض المفصل الدقيق، بأن أبوه إبراهيم هي من المعاني الرمزية الروحية، وأن اليهود وسائر البشر سواء في أبوة إبراهيم، وانتقلنا بعد ذلك من التوراة إلى الإنجيل لنرى ثورة السيد المسيح على تلك المزاعم اليهودية معلنا أن إبراهيم هو أبو الناس أجمعين بالإيمان، ثم ما أكده الإسلام فيما بعد أن إبراهيم لم يكن يهوديا.. وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده…
ثم تابعنا في الفصل الثاني سيرة إسحق ويعقوب وما تخللها من أساطير وخرافات يأباها الدين الحق، وخاصة ما كان منها مجافيا للسلوك الخلقي الكريم، والعقيدة التوحيدية الصافية، مقتبسين ما سردته التوراة من حوادث الإرهاب اليهودي ، ونقص العهد، وأخيرا ملحمة الصراع بين "الرب ويعقوب" فيما يوحي بانتصار العبد على ربه، مما كان سببا في تسميتة إسرائيل، أي جندي الله.. وكان ذلك أشنع ما سردته التوراة من خرافات.. على كثرة ما تضمنته من خرافات، ما أنزل الله بها من سلطان ولا برهان.
وقد أصبح من واجبنا بعد أن احتكمنا إلى التوراة، وهي المرجع الوحيد لليهود في كل دعاواهم السياسية والدينية والتاريخية، أن نحتكم إلى التاريخ، والى العلم، لنتبين مدى الصلة بين اليهود وإبراهيم.. فإن هذه المقولة اليهودية ليس لها ذرة من الصدق. وليس لها ما يؤيدها إلا شيوعها القديم، حتى لقد أصبحت مسلمة بسيطة تقبلها الكثيرون على أنها حقيقة علمية… يقابلونها بعدم المبالاة، ويهزون أكتافهم حين يسمعونها.. لا يبالون أكانت صحيحة أم باطلة، ولا يقفون أمامها لحظة واحدة ليلقوا عليها نظرة فاحصة.
ومما أعان على شيوع هذه المقولة اليهودية الباطلة، أن ضحاياها العرب لم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث العلمي الصابر للكشف عن بطلانها مكتفين بالتنديد والعبارات العامة دون أن يفعلوا كالعرب القدامى الذين يقصون أثر الجريمة بين كثبان الرمال حتى يصلوا إلى الجاني في مأواه…
والواقع أنه لولا الكسل العقلي الذي هو داء عضال في أجيال الرأي العام عبر التاريخ، لكان من السهل تبيان الصواب والخطأ في المقولة اليهودية السخيفة، فهذه لا تحتمل الصمود أمام التساؤل المنطقي العادي..
والمنطق يتساءل أولا:- هل المسيحيون هم أبناء السيد المسيح ومن
ذريته ؟. ويتساءل ثانياً : وهل المسلمون هم أبناء محمد ومن ذريته؟.
بل إنه يتساءل ثالثا:- وهل البوذيون والهندوس والبراهمة هم أبناء أصحاب هذه المذاهب الدينية ومن ذريتهم؟
ولو أننا خرجنا من إطار الدين إلى السياسة المعاصرة، فإن المنطق يتساءل رابعا وهل الماركسيون من أبناء ماركس ومن ذريته ؟ وهل المغول المعاصرون من أبناء تيمور لنك وجنكيز خان ومن ذريتهما؟
إن جواب النفي على كل هذه الأسئلة ينطبق على اليهود أنفسهم، فهؤلاء لا يمكن أن يكونوا أبناء إبراهيم ومن ذريته.
وهنا حجة إضافية أخرى وهي أن اليهود واليهودية لم يكن لهما وجود في عهد إبراهيم، فإن موسى صاحب الديانة اليهودية قد جاء بعد إبراهيم بمئات الأعوام، والجماعة اليهودية قد نشأت بعد عهد موسى، ولم يكن لها وجود في عهد إبراهيم فكيف يمكن لهذه الجماعة أن تنسب إلى إبراهيم؟.
وكذلك فإنه لا يمكن أن يكون إبراهيم إسرائيليا، لأن إسرائيل (يعقوب) هو حفيده ومن البلاهة أن ينتسب المرء إلى إحفيده ولا يمكن أن يكون يهوديا: لأن، يهوذا الذي سُمِي اليهود باسمه هو واحد من أبناء يعقوب (إسرائيل) ، أي ابن حفيده.
وقد أشار إلى هذا المعنى عدد من المؤرخين المحققين وعلى رأسهم المؤرخ العربي أبو الفدا، فقد نبه إلى أن "اليهود" أعم من بني إسرائيل لأن كثيرا من أجناس العرب والروم والفرس وغيرهم صاروا يهودا ولم يكونوا من بني إسرائيل(1).
وغني عن البيان أن رأي "أبو الفدا" قد صدر عنه قبل قيام الصهاينة بقرون وأجيال، ولا يمكن أن يكون محل شبهة أو نزوع إلى العصبية العربية.
ولعله يكون من المفيد ونحن نعرض لهذا الجانب التاريخي أن نضع أمام القارئ العربي بعض التواريخ التقريبية تبين التسلسل التاريخي للأحداث المتصلة بهذا الموضوع(1) قبل الميلاد:-
مولد إبراهيم الخليل في أور الكلدانيين بالعراق. 1880
هجرة إبراهيم مع أسرته من العراق في طريقه إلى فلسطين. 1805
رحيل إبراهيم إلى مصر ومولد إسماعيل من هاجر المصرية. 1794
مولد إسحق من سارة العراقية. 1780
هجرة يعقوب(إسرائيل) وأولاده إلى مصر. 1656
خروج موسى مِن مصر. 1227
وواضح من هذا التقويم الزمني أن بين عهد إبراهيم وموسى أكثر من ستماية عام، وبين عهد يعقوب (إسرائيل) وموسى حوالي 430 عاما… فيكف يمكن أن يكون اليهود موجودين قبل وجودهم التاريخي بمئات السنين.
وفي مرجع تاريخي يعود زمانه إلى القرون الوسطى نقرأ في كتاب "الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل" لمؤلفه مجير الدين الحنبلي، في سياق سيرة إسحق أن أمه سارة ولدته ولها من العمر تسعون سنة، ومن ولده الروم والأرمن واليونان ومن يجري مجراهم وبنو إسرائيل.
وهذا المرجع العربي، قد سبق الصهيونية بمئات السنين.. ولا يمكن أن ينسب إليه الانحياز إلى وجهة النظر العربية.. فلم يكن يومئذ وجهة نظر عربية وأخرى صهيونية.
غير أن للموضوع جوانب أخرى تسندها حقائق علمية كلها حول قضية أساسية جوهرية تقتلع القضية اليهودية من الجذور تذروها هشيما مع الرياح.
هذه القضية الأساسية تتمثل في السؤال البسيط… ما هي اليهودية؟ ومن هم اليهود؟
وعلى الجزء الأول من السؤال يمكننا الجواب بأن اليهودية هي الرسالة الدينية التي جاء بها نبي اليهود موسى.. أما القسم الثاني من السؤال فإنه على بساطته فقد جعله أحبار اليهود غاية في التعقيد والغموض، والمحاكم الإسرائيلية مشغولة منذ زمن في تعريف من هو اليهودي؟ والاجتهادات متناقضة في هذا الموضوع .. وسيظل الجواب تائها شأن اليهودي التائه عبر العصور الخالية..
غير أننا سنتناول الموضوع من الزاوية القومية والعنصرية… لأن قيام إسرائيل بذاته يقوم على أسس قومية وعنصرية… فاليهود أنفسهم قد اختاروا أن تكون الصهيونية قائمة على هذه الأسس.
ولكن الحقيقة العلمية كما اعترف بها عدد غير قليل من علماء اليهود ومفكريهم الأحرار، أن اليهود ليسوا شعبا ولا قوما، ولا جنسا، ولكنهم جماعات تؤمن بالديانة اليهودية منتشرة في جميع بقاع العالم وأن هذه الجموع تنتمي إلى أصول متعددة، وأجناس متباينة وأنها لا تستمد وجودها من أصول واحدة…
وهذه النظرة العلمية المجردة، يفرض العقل والمنطق صوابها وصحتها، فإن أصحاب الأديان، السماوية وغيرها، لا تجمعهم إلا رابطة الدين، ولا يعودون بأصلهم إلى "أصل واحد" سوى الإنسان الأول، أصل كل الأصول.
فالمسيحيون مثلا… ينسبون إلى أعراق ودماء متعددة، وأصول متباينة، وكذلك المسلمون فإنهم أمم منتشرة في شتى بقاع الأرض، وذلك شأن أصحاب المذاهب والعقائد الأخرى.
ويثور السؤال الخطير الكبير… ولم يكون اليهود غير ذلك؟ لم الإصرار على أن اليهود ينحدرون من جنس واحد، ودم واحد ومن أب واحد" مع الاستحالة المطلقة لإثبات هذا النسب أو ذاك عبر القرون والعصور، وفي عالم اختلطت فيه الدماء اختلاط مياه البحار بعضها ببعضِ، وامتزاج الرياح بالرياح من المشرق إلى المغرب.
وامتزاج اليهود بالشعوب الأخرى ظاهرة خفيت على كثيرين إحساساً منهم بأن اليهود قد عزلوا أنفسهم عن بقية الشعوب سكنا وعملا وزواجا… ولكن الواقع التاريخي كان أغلب من العزلة اليهودية.. فإن تشتت اليهود في كل أقطار العالم، قد فرض عليهم أن يعيشوا في كل المجتمعات العالمية والاختلاط بها أحبوا أم كرهوا، رغما عن أن عامل الشتات قد انفرد به اليهود دون غيرهم من الشعوب.
واليهودية منذ نشوئها لم تكن قاصرة على أمة بذاتها، فقد انتشرت اليهودية، شأنها شأن الديانات الأخرى، في أقطار متعددة ولأسباب مختلفة.. والتاريخ يحدثنا عن أقوام كثيرة اعتنقت الديانة اليهودية.. وإن تكن هذه العقيدة قد اقتصرت في بادئ الأمر على قوم موسى.. وهؤلاء كما سنرى في الفصول التالية ينحدرون من أصول متعددة، سامية وغير سامية.
والتوراة نفسها قد اعترفت بأن أقوام كثيرين قد اعتنقوا اليهودية، ففي سفر استير الذي يستعرض سيرة اليهود في بلاد فارس نجد في الإصحاح الثامن عرضا تفصيليا لأحداث وقعت لليهود ويشير إلى فرح اليهود في "كل بلاد ومدينة ومكان وصل إليه كلام الملك وأمره وكان فرح وبهجة عند اليهود وولائم ويوم طيب, وكثيرون من شعوب الأرض تهودوا".
والذي يقرأ هذه السفر بجميع إصحاحاته يتبين أن مملكة "احشر ويروش الذي ملك من الهند إلى كوش على مائة وسبع وعشرين كورة" كانت تعيش فيها جماهير غفيرة من اليهود.. ومثل هذه المملكة لابد أن تكون مؤلفة من أقوام متعددة، تنحدر من أصول مختلفة هندية وفارسية.. فأين صلة هذه الأقوام بإبراهيم العراقي.. أو بموسى المصري العربي؟
ولذلك فإن كلام بيجن رئيس وزراء العدو عن إبراهيم أبا مشتركا للعرب واليهود تكذبه التوراة بصورة قاطعة.. فأين إبراهيم من الفرس والهنود والأقوام المتعددة التي كانت تعيش في مملكة فارس المترامية الأطراف كما وصفتها التوراة في سفر أستير؟
وما يقال عن يهود مملكة فارس يصح أن يقال بشأن يهود أوروبا بصورة عامة، فهؤلاء هم من أصل أوروبي صميم وقد اعتنقوا الدين اليهودي على أيدي مبشرين من اليهود في القرن الثالث قبل الميلاد وفيما تلاه من القرون… وقد كان التجمع اليهودي مستقرا في حوض نهر الراين الشمالي والأوسط ومن هناك انتشروا في وسط أوروبا وفي شرقها وغربها…وهؤلاء لا صلة لهم بفلسطين، ولا كان لآبائهم وأسلافهم أية علاقة بفلسطين من قريب أو بعيد، فإن هؤلاء من أصل جرماني أو سلافي أو بلقاني.
والقول بأن اليهود المعاصرين الذين يبلغون اليوم بضعة عشر مليونا هم أحفاد اليهود الذين كانوا في فلسطين وطردهم الرومان منها قبل ألفي عام.. مثل هذا القول ليس له برهان، ويستحيل اثباته بعد عشرين قرنا من الزمان.
وملامح هؤلاء اليهود المعاصرين تناقض هذه الدعوى، لأننا نجد فيهم الشقر ذوي العيون الزرقاء، والشعر الأصفر في أوروبا وأمريكا، وفيهم السمر ذوي الشعر المجعد في هضبة الحبشة، والسمر في جنوب الهند، والصفر المغول في الصين، واختلافات كثيرة قلما أن تجدها في شعوب أخرى في العالم.
وأنه من غير المعقول أن تكون هذه السمات من الأسود إلى الأشقر إلى الأصفر، كلها منحدرة من سلالة واحدة.
والعقيدة اليهودية لم تكن قاصرة على أوروبا وحدها بل إنها انتشرت في الجزيرة العربية، وفي مصر قبل الإسلام بقرون وفي القرآن آيات كثيرة تشير إلى ذلك وخاصة في سورة النحل.
ولا يغيب عن البال أن المبشرين اليهود كان لهم نشاط كبير في أنحاء متعددة من العالم للدعوة إلى الدين اليهودي والحث على اعتناقه وقد كتب العالم اليهودي (Lou Sillaberman) وهو أستاذ جامعي في الأدب اليهودي مقالا في دائرة المعارف البريطانية تحت مادة (Judaizm) أيد فيه أن اليهود نشطوا إلى التبشير عندما رأوا الوثنية قوية النفوذ منتشرة في العالم، وأن الكتاب القدماء من اليونان والرومان كانوا يشيدون بقوة النشاط التبشيري الذي قام به اليهود.
وإذا ذكرنا أن الديانة اليهودية قد جاء بها موسى في القرن الثالث عشر قبل الميلاد أتضح لنا أن اليهود قضوا بضعة عشر قرنا يعملون بجد ونشاط في نشر ديانتهم لبضعة قرون قبل العهد المسيحي وبعده، ويقينا فإن الشعوب والأمم التي دخلت في الدين اليهودي لا تمت بصلة إلى إبراهيم أو يعقوب (إسرائيل)، ولا إلى يهود فلسطين بصورة عامة، ولذلك فإنه لا صلة لهم ببني إسرائيل، وبالتالي فلا يمكن أن يوصفوا بأنهم إسرائيليون وإن كان صحيحا أنهم يهود تهودوا على أيدي دعاة اليهودية. ونحن لا نعرف سجلا يهوديا أو عالميا يحدد لنا يهود فلسطين الأصليين، ويهود العالم الآخرين…
ولذلك فالقول بأن اليهود هاجروا ويهاجرون إلى فلسطين إنما يعودون إلى أرض آبائهم يكذبه التاريخ والعلم والواقع.. فإن آباء الشعب اليهودي ينتمون إلى سلالات متباعدة فيما بينها ولا ترتبط برابطة جنسية أو سلالية.
ويكفينا في هذا المجال أن نشير إلى ما كتبه علامة محايد، هو الأستاذ أوجين بيتار أستاذ علم الأنثروبولوجيا في جامعة جينف من أن "جميع اليهود بعيدون عن الانتماء إلى الجنس اليهودي، وأن اليهود يؤلفون جماعة دينية اجتماعية، ولكن العناصر التي تتألف منها متنوعة تنوعا عظيما" (1)، وقد أضاف الأستاذ بيتار أن "الصهيونية قد قذفت إلى فلسطين بجماعات يهودية متعددة الأصول والأجناس".
وهذا القول يؤيده واقع التجمع اليهودي فإن انتشار الدين اليهودي إلى ارض الصين شرقا و إلى حوض الراين وبلاد أوروبا غربا يقطع على وجه اليقين أن الوحدة الجنسية بين الجماعات اليهودية غير قائمة إطلاقا وأن الشعب اليهودي هو مجموعة شعوب غريبة بعضها عن بعض.
ومن أبرز الدلائل على تعدد أصول "الشعب اليهودي" يهود بلاد القوقاز الذين كانوا يؤلفون مجموعة هامة في القرون الوسطى، ومن هذه المجموعة امتد انتشار الدين اليهودي في شعب الخزر أيام الإمبراطور شرلمان.. ففي ذلك الوقت اعتنق الخزر جميعا الدين اليهودي جماعة واحدة وأصبح شعب الخزر بكامله يهوديا بين عشية وضحاها… فقد كانوا وثنيين في العشية وأصبحوا يهودا في الضحى..
ومعروف أن الخزر هم من القبائل المغولية.. فأية صلة للمغول بفلسطين، أو إبراهيم، أو يعقوب، أو يهود فلسطين.
ولا يفوتنا كذلك أن الدين اليهودي قد انتشر بين الشعوب الجرمانية والسلافية في عهودها الأولى، قبل المسيحية بقرون.. ومن الوقائع التاريخية الثابتة وجود تجمع يهودي كبير تم تكوينه قبل ميلاد المسيح بقرنين أو ثلاثة، في الحوض الشمالي لنهر الراين ومنه تفرعت مجموعات أخرى في بولندا وروسيا الغربية.
وعلى ذلك فإن هذه الجماعات اليهودية تنتمي إلى سلالات سلافية وجرمانية، وهؤلاء لم يكن لهم في ذلك العهد أي تاريخ أو صلة بفلسطين والشرق الأوسط، كالفرس والرومان مثلا، فإن هذه الإمبراطوريات قد بسطت سلطانها على الشرق الأوسط لزمن طويل.
وما يقال عن يهود أوروبا صحيح بالنسبة إلى يهود اليمن والحبشة ومصر، فإنه من الجائز أن يهود فلسطين كانوا في القدم من المبشرين للديانة اليهودية .. ولكن الذين تهودوا على أيديهم هم أحباش ومصريون ويمنيون أبا عن جد، لا تربطهم بفلسطين أية رابطة، ولا نسب بينهم وبين بني إبراهيم، أو بني يعقوب، ولم يكن أحد منهم من قوم موسى في رحلته المضنية في سيناء إلى الأردن، إلى فلسطين.
ولا نريد أن نسرد تحقيقات علماء الأجناس في هذا الموضوع، ولكن ما دام اليهود يزعمون أنهم منحدرون من جنس واحد وأن اليهود العالم قد ولدوا جميعا من الشعب الإسرائيلي الذي عاش في فلسطين أصبح من واجبنا أن نرجع إلى أقوال علماء الأجناس في هذا الصدد..
وعلى رأس العلماء في هذا البحث يأتي الأستاذان وولي وبيتار، فهذان الباحثان الكبيران قد توصللا إلى نتائج حاسمة بعد دراسات مستفيضة لصفات الطوائف اليهودية في مختلف الأقطار ووجدا أن اليهود في أفريقيا الشمالية لا يختلفون عن العرب والبربر، وفي ألمانيا فإنهم يشبهون الألمان شبها واضحا، وفي البلاد السلافية فاليهود لا يختلفون عن مواطنيهم السلاف.. وعلى هذا فقد وجد هذان العالمان اختلافا بعيدا بين هذه الجماعات اليهودية.. ولو كانت من سلالة أو جنس واحد لوجدا فيها تشابها وتماثلا..
وفي هذا الصدد يقول الأستاذ وولي في كتابه عن "أجناس أوروبا" أن تسعة أعشار يهود العالم يختلفون عن سلالة أجدادهم اختلافا واسعا ليس له نظير، وأن الزعم بأن اليهود جنس نقي حديث خرافة.
وقد وضع الأستاذ وولي كتابه هذا في أواخر القرن الماضي، قبل أن تنشأ المشكلة الفلسطينية، وقد اعتمد هذا المؤلف كلمة رينان الفيلسوف الإفرنسي الشهير في تأكيده بأن كلمة يهودي ليس لها معنى أنثروبولوجي لا في أوروبا ولا في حوض نهر الطونة، وكذلك أيد ما قاله الأستاذ لمبروزو في ملاحظته بأن اليهود الحديثين هم أقرب إلى الجنس الآري منهم إلى الجنس السامي.
والأستاذ بيتار تناول هذا الموضوع من جوانب أخرى فقال في كتابه الذي أشرنا إليه "إن اليهود عبارة عن طائفة دينية اجتماعية انضم إليهم في جميع العصور أشخاص من شتى الأجناس، وهؤلاء المتهودون جاءوا من جميع الآفاق، فمنهم الفلاشا من سكان الحبشة، ومنهم الألمان ذوو السحنة الجرمانية، ومنهم التامل اليهود السود من الهند، ومن الخزر وهؤلاء من الجنس التركي".. ومن المستحيل أن نتصور أن اليهود ذوي الشعر الأشقر أو الكستنائي والعيون الصافية اللون الذين تلقاهم في أوروبا الوسطى يمتون بصلة القرابة إلى أولئك الإسرائيليين القدماء الذين كانوا يعيشون بجوار نهر الأردن.
وما أبعد أهل الراين والطونة عن أهل الأردن، دما وتاريخا ووجودا ؟؟
وثمة عالم كبير له مقام مرموق في مجال الأبحاث الأنثروبولوجية، ومن حسن الحظ أنه يهودي أباً وأما واسما هو فريدريخ هرتس، صاحب كتاب
"الجنس والحضارة تناول فيه موضوع التكوين الجنسي لليهود، وقد قال بعد دراسة مستفيضة في هذا الموضوع: لقد استطاع اليهود أثناء تاريخهم الطويل أن يمتصوا مقدارا كبيرا من الدماء الأجنبية, وهذه الحقيقة تفسر ما نراه فيهم من اختلاف في الصور والأشكال، ومشابهتم للشعوب التي يعيشون فيها.. وقد كان اعتناق الديانة اليهودية بواسطة اليونان والرومان والشعوب الأخرى أمراً كثير الحدوث، وعلى الأخص في القرن الأول والثاني قبل الميلاد. أما في العصور الوسطى فعلى الرغم من جميع العقبات فقد حدث مثل هذا التحول إلى الديانة اليهودية خاصة في البلاد السلافية، وهذا هو السبب في أننا نرى اليهود الروس والبولونيين يشبهون السلاف شبها لا شك فيه… واليهود الألمان أقرب شبهاً بسائر الألمان منهم بإخوانهم في الدين من أهل فلسطين..(1)
والمتأمل في وجه بيجن، وهو بولوني الأصل، يستطيع أن يتفق تماما مع الأستاذ هرتس، ويستطيع أن يرى فيه الملامح السلافية وأن هذا اليهودي الأجنبي العدو، ومعه سائر اليهود الأوروبيون لا يشبهون في شيء، يهود فلسطين القدامى، ولا يهود البلاد العربية من المحيط إلى الخليج.. وهذا ينطبق على كثيرين من زعماء اليهود من أمثال وايزمن وجولدا مائير وأشكول وغيرهم.
ولم يكن انتشار اليهودية بين مختلف الأقوام والأمم نتيجة التبشير والدعوة فقط ولكنه جاء كذلك بأسلوب العنف والقوة… وقد أشار إلى ذلك المؤرخ البريطاني الشهير توبيني في مقالة نشرها في مجلة جويش فرونتير في فبراير 1955 قال فيها "إن المكابيين (اليهود) أجبروا أدوم والجليل على اعتناق اليهودية بالقوة، وبذلك مهدوا لأن يكون هيرود والمسيح يهوديين وليسا من الأمميين".
وأنها لمفارقة عجيبة أن تهويد السيد المسيح جاء بأعظم مصلح يهودي ثار على كل مفاسد اليهود، وأن هيرود حاكم القدس فيما بعد كان أعظم أعداء اليهود في زمانه.
ولكن المرجع الأكبر عن مملكة الخزر اليهودية الذي نستطيع اعتماده بكل ثقة واطمئنان بشأن الخزر الذي أشرنا إليهم هو دائرة المعارف اليهودية بمجلداتها الضخمة وهي موسوعة كبرى عن تاريخ اليهود منذ أقدم العصور وقد تفرغ لكتابتها عدد وافر من علماء اليهود، ومؤرخيهم وحاخاماتهم. وهذا المرجع قد كشف عن حقائق علمية متعددة ولا يتسع هذا الفصل لترجمة مقتبسات وافية عنها.. وتكفينا إشارات عابرات لأهم ما جاء فيه، وللقارئ العربي إذا أراد المزيد أن يرجع إلى دائرة المعارف اليهودية نفسها. فقد كان لهؤلاء الخزر، وهم من أصول تركية مغولية، مملكة في روسيا، وتحدثت الموسوعة اليهودية عن الأثر الديني والثقافي لليهود على جماعات الخزر، واعتناقهم الدين اليهودي، ومبلغ أهمية هذه
الدولة اليهودية بين القرنين السابع والعاشر بعد الميلاد.. وتنكر الموسوعة حتى مجرد وجود جنس يهودي له أية صلة تاريخية بفلسطين أو أية رابطة بالأقوام التي استوطنت فلسطين قبل ألفي عام.
ويأتي بعد الموسوعة اليهودية، مرجع لا يقل عنها أهمية، ويفوقها تخصصا ، وهو كتاب تاريخي مرموق وضعه عالم يهودي كبير هو الأستاذ دانيا عن "تاريخ اليهود في روسيا وبولندا من أقدم العصور" وشرح فيه الحماسة الدينية للملك عباديا ملك الخزر وعن تقدم المملكة اليهودية وقوتها، كما تحدث عن حماسة الحكام اليهود اللاحقين، وقد ندّد الأستاذ دانيا في آخر "تاريخ اليهود" بجهل اليهود في الأقطار الأخرى بأحوال مملكة الخزر.
وفي هذا المجال لا نستطيع أن نغفل ذكر عالم يهودي آخر هو الأستاذ جريننز، فقد كشف في كتابه القيِّم "تاريخ الشعب اليهودي" عن حقائق فريدة تتصل بحياة مملكة الخزر، منها أن عرش هذه المملكة قاصر على اليهود فقط فلا يتولاه إلا أمير يهودي متمسك بالتعاليم اليهودية، وأن الملك عبادا كان قد أصدر أوامره إلى علماء اليهود أن يعلموا الشعب مبادئ دينهم… ويستعرض هذا الكتاب فيما بعد كيف انتهى أمر هذه الدولة اليهودية بعد القرن الثالث عشر وكيف ذاب شعبها في الدولة الروسية.. وأن أبناء آخر ملوك الخزر قد هربوا إلى إسبانيا.. والنتيجة التي تستخلص من هذا الكتاب القيم أن يهود أوروبا الشرقية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكونوا من نسل سكان فلسطين الذين شردوا من البلاد قبل ألفي سنة.
ولا بد لنا من الإشارة إلى مرجع أمريكي معروف في مجالات الأبحاث الأنثروبولوجية، وخاصة أن أمريكا لها النصيب الأوفر في إنشاء إسرائيل وتسليحها ودعمها بكل الأسباب الاقتصادية والسياسية… هذا المرجع هو العالم الأمريكي الأستاذ رولاند ديكسون، أستاذ الأنثروبولوجي في جامعة هارفارد.
يقول العالم الأمريكي المذكور في كتابة " جنس الإنسان وتاريخه" أن بلاد الأناضول وأرمينيا والقفقاس وأواسط آسيا هي المهد الأصلي للأكثرية العظمى لليهود المعاصرين في العالم، وأن هؤلاء ليسوا ساميين إلا باللغة فقط".
وكل هذه المراجع العلمية، وغيرها تقود الباحث المنصف، إلى مفارقة عجيبة، وهي أن جميع يهود أوروبا الشرقية، وفي مقدمتهم بيجن رئيس وزراء العدو، هم من أحفاد الخزر، لا صلة لهم ولا لآبائهم بفلسطين من قريب ولا من بعيد، وأن هؤلاء الذين تقول عنهم الصهيونية أنهم عائدون إلى وطنهم التاريخي فلسطين إنما هم غرباء وغزاة محتلون، يتوجب إجلاؤهم عن البلاد كما تم إجلاء كل غزوة أجنبية عن أي قطر في آسيا وأفريقيا، وأية بقعة أخرى ابتليت بالاحتلال الأجنبي.
والواقع أن غربة اليهود بالنسبة إلى فلسطين قديمة قدم التاريخ، فإن تاريخهم هو تاريخ غربة في فلسطين، وقد وردت إشارات متعددة عن ذلك في كتابهم المقدس "التوراة".
ويكفينا أننا نقرأ في الإصحاح السابع عشر من سفر التكوين أن "الرب ظهر لإبرام"-(إبراهيم) وفي حديث معه وصف "كل أرض كنعان" –فلسطين بقوله "أرض غربتك وهو في الواقع غريب عن فلسطين هاجر إليها من أور الكلدانيين- موطن آبائه وأجداده.
فإذا كان بيجن رئيس وزراء العدو يعود بنسبة إلى إبراهيم فإن إبراهيم نفسه غريب عن فلسطين بأكملها , كما قال له "الرب" رب إسرائيل ورب بيجن , ما دام موصوفاً بتمسكة باليهودية .
وتأتي التوراة بعد ذلك لتكشف أمر الغربة بوضوح أقطع وأسطع، ففي الإصحاح الثاني والعشرين في سفر التكوين تحدثنا التوراة أن سارة (زوجة إبراهيم) ماتت… "فأتى إبراهيم ليندب سارة ويبكي عليها وقام إبراهيم من أمام ميته وكلم بني حث قائلاً أنا غريب ونزيل أعطوني ملك قبر معكم لأدفن ميتي من أمامي"، وتقص التوراة بعد ذلك كيف أعطاه أهل البلدة مغادرة ليدفن فيها زوجته.. ودفنها.
وهل نحن في حاجة إلى دليل أوضح من نص التوراة ذاتها، ومن فم إبراهيم نفسه يستنفر مروءة الأهلين بأنه "غريب ونزيل عندهم" ويطلب منهم مدفنا لزوجته وهي مسجاة على فراش الموت أمامهم.
وهذه الغربة بالنسبة لإبراهيم وردت بعد ذلك في مواضع متعددة من التوراة ومن الإنجيل كذلك.
بل أن "إبرام" قد أضيف إليه في التوراة تعريف محدد "إبرام العبراني".. واختلف علماء التوراة في تفسير هذا اللفظ فقيل أنه نسبة إلى "عابر" أحد أجداد إبرام… وقيل إنه نسبة إلى عبوره نهر الفرات في ارتحاله من العراق إلى البلاد العربية الأخرى.
وكل ذلك توكيد أنه غريب عن فلسطين بأسرها، ذلك أنه منذ القدم، كان لا بد أن يلحق باسم المهاجرين والوافدين صفات تدل على أنهم غرباء وأنهم ليسوا من أهل البلاد الأصليين.
وكائنا ما كان السبب في إلحاق لفظ "العبراني" إلى اسم إبراهيم، فإن لفظة العبرانيين تمتد جذورها إلى إبرام العبراني، وبذلك يكون العبرانيون جماعة من الغرباء , وأن إبراهيم هو الغريب الأول وأن جميع سكان إسرائيل هم مجموعة من الغرباء الوافدين.
ولكن أسو أ التفاسير التي قدمها العلماء في أصل لفظة العبرانيين أنها مشتقة من لفظة "الخابيرو" وقد وجدوا هذا الاسم في النقوش المصرية والبابلية وبعض المراجع التاريخية.
وقيل في تعريف "الخابيرو" أنهم قوم-من غير حسب ولا نسب، ليس لهم أصل معروف وأنهم جماعة من شذاذ الأرض عاشوا في الشرق الأوسط يرتحلون من إقليم إلى إقليم، يعيثون في الأرض فساداً، ويقطعون الطريق وهم أشبه ما يكونون بمرتزقة هذه الأيام، يؤجرون شقاوتهم لكل طالب أو راغب.
وفي خضم هذه المراجع العلمية عن أصل العبرانيين وانتشار الديانة اليهودية فيما بعد في أقطار أوروبا الشرقية وغيرها، يجب أن لا يغيب عن بالنا نشوء اليهودية والجماعات اليهودية في الوطن العربي..
وإذا بدأنا بفلسطين فإنه مما لا شك فيه أن قوم موسى، ومعظمهم من اليهود، قد دخلوا إلى فلسطين قي قصة طويلة سنشرحها في فصول تالية. ومن فلسطين انتشرت الديانة اليهودية إلى أقطار أخرى بالتبشير تارة وبقوة السلاح تارة أخرى-كما أشار إلى ذلك كثير من المراجع العلمية.
ولكن يهود فلسطين هؤلاء قد تشتت معظمهم إلى أقطار أخرى في الوطن العربي وفي خارجه. وأكثرهم كان نصيبه إلى بابل وآشور. وقد استقر الكثير من هؤلاء في مواطنهم الجديدة في العراق ولم يعودوا إلى فلسطين مع من عاد.. وذابوا في الشعوب التي عاشوا بين ظهرانيها.
ودخلت اليهودية كذلك إلى الحبشة، بالتبشير أو بأسباب أخرى، وكان لليمن نصيب غير قليل من تاريخ اليهودية ومن علمية التهويد.. فإن ملوك حمير وهم من العرب الصرحاء الأقحاح قد تهودوا لأسباب سياسية ولا يتسع هذا الفصل للخوض فيها.. ومن الطبيعي أن جماهير كثيرة من الشعب اليمني قد تهودت، والناس على دين ملوكهم كما يردد القول المأثور.
ولم يكتف ملوك اليمن اليهود بتهويد شعبهم، ولكنهم حاولوا أن يهودوا نصارى نجران، فإن الملك اليهودي ذانواس قد راح ينكل بالنصارى ليحملهم على التخلي عن دينهم واعتناق اليهودية فأعمل فيهم السيف وألقى بأجسادهم في أخدود تشتعل فيه النيران، وقد ذكر القرآن هذا الإرهاب اليهودي في آيات غاضبة جاء فيها "قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد" (سورة البروج4-.
وما كان من نجاشي الحبشة المسيحي إلا أن ينتقم من ملوك اليهود في اليمن، فجهز لهم حملة عسكرية، فأزال دولتهم، وكما زالت دولة الخزر اليهودية في شرقي أوروبا زالت دولة اليهود اليمنية في جنوب الجزيرة.
وكما كان لليهود تاريخ في جنوب الجزيرة العربية، فقد سجل لهم التاريخ وجودا بارزا في شمال الجزيرة العربية، في الحجاز، وفي يثرب بالذات، المدينة المنورة.
والمراجع العربية الإسلامية قد تضمنت فصولا مطولة عن يهود المدينة المنورة، وما بلغوه من مكانة مرموقة في التجارة والزراعة والصناعة، واشتهارهم في بناء الحصون.
وقد كان الوجود اليهودي في الحجاز يتمثل في قبائل برمتها وخاصة في يثرب، وهؤلاء جميعا منحدرون من أصول عربية اعتنقوا الديانة اليهودية لسبب أو لآخر، ولم يكونوا من قوم موسى الذين دخلوا معه إلى فلسطين ولا من أحفاد إبراهيم ولا أبناء يعقوب، فإنهم عرب أقحاح، وليسوا إسرائيليين من أبناء يعقوب إسرائيل.
وبهذه الصفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب لهم عهدا بيَّن لهم حقوقهم وواجباتهم.. وكان العهد بين محمد النبي.. ويهود بني عوف.. ويهود بني النجار .. ويهود بني الحارث .. ويهود بني ساعده ويهود بني جمح.. ويهود بني الأوس، ويهود بني ثعلبة وقد وقع بنو قريظة وبنو قينقاع وبنو النضير، وهم القبائل اليهودية الأخرى عهودا مماثلة مع الرسول صلى الله عليه وسلم.. وكل هذه أسماء قبائل عربية تعرف أنسابها ومواطنها في الجزيرة العربية، ولم يكن لها وجود في فلسطين، ولا في سيناء التي عبر منها اليهود إلى فلسطين.
وهذه القبائل اليهودية حاربت الدعوة الإسلامية كما فعلت القبائل العربية الأخرى غير اليهودية.. وتحالف اليهود مع المشركين الأوس والخزرج، لمناهضة الإسلام والكيد لصاحب الدعوة الإسلامية لأنها كانت تخشى انتشار الدين الجديد بين القبائل اليهودية.
ولم يكن من فارق بين القبائل اليهودية، والقبائل العربية غير اليهودية، فقد كان لهم شعراؤهم كشعراء العرب الآخرين، ينظمون في الهجاء والغزل تماما كما ينظم شعراء العرب في الجاهلية.. وقد شارك شعراء اليهود في رثاء قتلى بدر من المشركين تعاضدا معهم وحقدا على الإسلام والمسلمين.
وقد نظمت الشاعرة اليهودية أسماء بنت مروان كثيرا من القصائد في هجاء الرسول صلى الله عليه وسلم كما أنشد الشاعر اليهودي كعب ابن الأشرف عدة قصائد يحرض فيها القرشيين على الأخذ بثار قتلاهم في معركة بدر-أنشدها على مسمع عدد من المسلمين والقارئ لهذه القصائد لا يستطيع أن يرى فيها كلمة واحدة تدل على يهودية صاحبها.. فهي لا تقل جودة عن الشعر الجاهلي الجيد.
وقصيدة السموأل-صموئيل- الشاعر اليهودي المعروف من أروع ما جاء في الشعر العربي عن السجايا العربية الكريمة. وكنا نحفظها عن ظهر قلب في أيام الصبا الباكر وننشدها بكل فخر واعتزاز، قبل أن تقتحم علينا الصهيونية وطننا، وتجلينا عن ديارنا وتوقع النكبات الكبرى في الأمة العربية بأسرها.
ولم تكن مصر بعيدة عن الدعوة اليهودية.. فإن بني إسرائيل قد أقاموا في مصر قرابة أربعة قرون ونصف كما سنرى في الفصول التالية.. ثم قام فيهم موسى فقادهم إلى سيناء ومنها إلى فلسطين، وأصبح قومه يهودا فيما بعد.
ولكن اليهودية تسللت إلى مصر بطرق شتى بعدئذ، وكان لليهود شأن كبير في الإسكندرية وغيرها، وكان لهم معبد في أقصى الجنوب، في جزيرة الفنتين في أسوان.
وامتد وجودهم في العصور الإسلامية في عهد الفاطميين وغيرهم من الدول الإسلامية… وأصبح لهم شأن كبير في تصريف أمور الدولة مما أغضب الشاعر المصري ابن البواب فأنشد يقول…
يهـود هـذا الزمـان قد بلغوا
غاية آمالهم وقد ملكـوا
العز فيهـم والمـال عندهــم
ومنهم المستشار والملـك
يا أهل مصر لقد نصحت لكـم
تهودوا قد تهود الملك
وهذا الشعر ينطبق على مصر في عهد السادات.
ونخرج من هذا العرض السريع في تلخيص تاريخ اليهود في أوروبا وفي الوطن العربي، أنهم منحدرون من شعوب وأقوام وسلالات متباعدة بعضها عن بعض، وأن بيجن رئيس وزراء العدو، ومعه الألوف المؤلفة من اليهود، لا قرابة لهم بإبراهيم، ولا أبنائه، ولا صلة لهم بموسى إلا عن طريق العقيدة اليهودية.. ولا شأن لهم بالتالي بقوم موسى الذين خرجوا من مصر، وعبروا سيناء إلى فلسطين.. وأن ما يزعمونه من "العودة" إلى فلسطين أرض الآباء والأجداد ما هو إلا غزو وعدوان واحتلال.. وكل ذلك إلى زوال.. وكذلك يجب أن يكون.
وبعد، فأين أبناء الخزر من أبناء بيت المقدس..
وأين أهل الراين والطونة (الدون) من أهل الأردن..
وأين أهل الصين من أهل فلسطين.