منتديات جامعة باتنة 2
بحوث ودراسات سياسية 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي
سنتشرف بتسجيلك
شكرا بحوث ودراسات سياسية 829894
ادارة المنتدي بحوث ودراسات سياسية 103798
منتديات جامعة باتنة 2
بحوث ودراسات سياسية 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي
سنتشرف بتسجيلك
شكرا بحوث ودراسات سياسية 829894
ادارة المنتدي بحوث ودراسات سياسية 103798
منتديات جامعة باتنة 2
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


لاندعي أننا الأفضل لكننا نقدم الأفضل
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول
<

 

 بحوث ودراسات سياسية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
MAZOUZ MOHAMED
...::|رئيس المنتدى|::...
...::|رئيس المنتدى|::...
MAZOUZ MOHAMED


مساهماتي : 5235
تاريخ الميلادي: : 01/07/1991
تاريخ التسجيل : 22/07/2009
عمـــري: : 32
الموقع : www.univ-batna2.alafdal.net

بحوث ودراسات سياسية Empty
مُساهمةموضوع: بحوث ودراسات سياسية   بحوث ودراسات سياسية Icon_minitimeالإثنين 21 فبراير - 16:04

بحوث ودراسات متنوعة متخصصة في شئون السياسة وعلومها


تنويه هـام:

* يمكنك التعليق على مايطرح هنا من موضوعات، عن طريق مشاركة مستقلة بالمنبر السياسي فقط ..
* ما يطرح هنا من بحوث ودراسات سياسية
فهي تعبر عن وجهات نظر اصحابها ولاتعبر بالضرورة عن رأي المنتدى او شبكة
بوابة العرب وكافة منسوبيها..
[line]
مل ستيورات: مختارات من كتاب "بحث في الحرية"

الفصل الأول

المدخل: في حدود سلطة المجتمع على الفرد

ليس موضوع هذا البحث الحرية التي تسمى "حرية الإرادة" والتي تقابل لسوء
الحظ ما يسمى خطأ بالضرورة الفلسفية، وإنما موضوعه: الحرية والمدنية، أو
الاجتماعية، وطبيعة السلطة التي يمارسها المجتمع شرعيا على الأفراد،
وحدودها. إنها مسألة قلّ أن عرضت، وندر أن بحثت بشكل عام، ولكنها مع ذلك
ذات أثر عميق في مشاكل هذا العصر العملية لوجودها الكامن الخفي. واكثر الظن
أنها سوف تبرز نفسها قريبا لتعتبر مسألة المستقبل الحيوية. إنها أبعد ما
تكون عن الجيدة. ويمكن القول انها منذ أقدم العصور تقريبا قد شطرت العالم.
أما في مرحلة التقدم الحالية التي دخلها اكثر أقوام النوع الإنساني حضارة،
فإنها تعرض نفسها ضمن شروط جديدة وتتطلب معالجة جديدة وأكثر عمقا.

إن الصراع بين الحرية وبين السلطة أبرز ظاهرة في أقسام التواريخ التي
نعرفها، وخاصة تاريخ اليونان وروما وإنكلترا. أما في العصور القديمة فقد
كان هذا الصراع بين الرعية أو بعض طبقات الرعية وبين الحكومة، وكان المعنى
المفهوم من الحرية الاحتماء من استبداد الحكام السياسيين. فقد كان هؤلاء
الحكام (باستثناء بعض حكومات الإغريق الشعبية) يُنظر إليهم وكأنهم بالضرورة
في وضع معاد للشعب الذي يحكمون. كان الحكم بيد حاكم فرد، أو بيد قبيلة
حاكمة أو سلالة، وكانت سلطتهم آتية عن طريق الإرث أو الفتح، ولم تكن تمارس
برضى المحكومين، ولم يكن أحد يجرؤ على منازعة تلك السيادة أو يرغب في ذلك
رغم كل الاحتياطات التي كانت تتخذ لاتقاء ضغطها التعسفي. كانت النظرة إلى
سلطانهم أنه ضروري وأنه عظيم الخطر في الوقت نفسه، فهو سلاح قد يحاولون
استعماله ضد رعيتهم كما يحاولون استعماله ضد العدو الخارجي. كذلك كان من
الضروري، حتى لا يقع الضعاف من أعضاء المجتمع فريسة ينهكها عدد لا يحصى من
العقبان، أن يوجد هناك حيوان جارح يكون أقوى من الآخرين يُناط به أمر
إخضاعها. ولكن، لما كان ملك العقبان ليس أقل ميلا إلى افتراس الرعية من أي
نهاب سلاب آخر، فقد كانت الضرورة تقضي دائما باتخاذ خطة الدفاع ضد مخلبيه
ومنقاره. لذلك كان هدف الوطنيين وضع حد للسلطة التي يجب أن يتحمل الحاكم
مسؤولية ممارستها على المجتمع، وهذا التحديد هو ما عنوه بالحرية. حاولوا
إرساء أسس هذا التحديد بطريقتين: الأولى هي الحصول على اعتراف ببعض
الحصانات، تسمى الحريات أو الحقوق السياسية، كان انتهاكها من قبل الحاكم
يعتبر إخلالا بواجبه، فإذا اقدم على انتهاكها كان في عمله ما يبرر المقاومة
الخاصة أو الثورة الشاملة؛ أما الطريقة الثانية التي ظهرت بعد الأولى
فكانت إقامة ضوابط دستورية بموجبها أصبحت موافقة المجتمع، أو أي هيئة يفترض
انها تمثل مصالحه، شرطا لازما في بعض الإجراءات الهامة التي تريدها السلطة
الحاكمة. لقد اضطرت السلطة الحاكمة في معظم البلاد الأوروبية إلى الرضوخ،
نوعا ما، للطريقة الأولى. ولكن الحال لم يكن كذلك بالنسبة للطريقة الثانية:
إذ أصبح الوصول إلى هذا النوع من التحديد أو إلى إكماله حين يكون جزء منه
مؤمنا، اصبح ذلك في كل مكان الغرض الأساسي لمحبي الحرية. ولما اطمأن البشر
إلى محاربة عدو بعدو آخر، وقنعوا بأن يُحكَموا من قبل سيد ضمن شروط تؤمن
لهم نوعا من الحماية ضد استبداده، فانهم لم يعودوا يعملون ليدفعوا بأمانيهم
إلى أبعد من هذه النقطة.

ثم جاء زمن رأى الناس فيه أن ليس من ضرورة طبيعية أن يكّون حكامهم سلطة
مستقلة، تتعارض مصالحها مع مصالحهم. وبدا لهم أن الأفضل أن يكون أولئك
الذين يستلمون شؤون الدولة وكلاء أو مندوبين عنهم يعزلونهم متى شاءوا. وظهر
أن هذا هو السبيل الوحيد الذي يعطيهم الضمانة التامة في أن لا يساء
استعمال سلطة الحكم في غير صالحهم. هذا الطلب الجديد لحكام ينتخبون انتخابا
لمدة مؤقتة أصبح تدريجيا الغرض الرئيسي لأي حزب شعبي أينما وجد حزب من هذا
النوع. وأخذ هذا الطلب، إلى حد بعيد، مكان طلب الحد من سلطة الحكام الذي
كانت تسعى إليه الجهود السابقة. وفيما كان النضال لجعل السلطة الحاكمة
تنبثق عن انتخاب دوري من قبل المحكومين يسير في وجهته، أخذ بعض الناس
يفكرون بأن الأهمية التي علقوها على مسألة تحديد السلطة نفسها كانت أكثر
من اللازم، وان المسألة نفسها يمكن أن تكون مأخذا يؤخذ ضد الحكام الذين
كانت مصالحهم عادة متضاربة مع مصالح الشعب. فما هو مطلوب الآن هو أن يكون
الحكام متجاوبين مع الأمة وأن تكون مصالحهم وإرادتهم مصلحة الأمة وإرادتها.
لن تحتاج الأمة إلى حماية من إرادتها الذاتية، وليس هناك خوف من أن تستبد
بنفسها. ليكن الحكام مسؤولين عنها بطريقة مثمرة، وليكونوا عرضة للعزل من
قِبَلِها، وعندها يمكن أن تمنحهم سلطات تستطيع هي أن تفرض أين يجب أن
تُستعمل. وسلطتهم عندئذ ليست شيئا آخر سوى سلطة الأمة، وقد تمركزت بطريقة
صالحة للتنفيذ.

أن هذا الأسلوب في التفكير، أو بالأحرى في الشعور، كان شائعا بين الأجيال
الأخيرة من أحرار أوروبا، ولا يزال شائعا فيها حتى الآن كما يظهر. ويبقى
أولئك الذين يقبلون فرض أي حد على ما يمكن أن تفعله الحكومة (إلا في حالة
الحكومات التي يعتقدون أنها يجب أن لا توجد) يبقون قلة لامعين بين مفكري
أوروبا السياسيين. إن أسلوبا في الشعور مماثلا لما ذكرت كان من الممكن أن
يكون سائدا في بلادنا نفسها في هذا الوقت لو أن الظروف التي شجعته فترة من
الزمن بقيت ولم تتبدل.

بيد أن النجاح في النظريات الفلسفية والسياسية، وفي الأشخاص أيضا يكشف عن
عيوب وخطيئات قد يخفيها الفشل عن عين الملاحظ. فالرأي القائل بأن الشعب لا
يحتاج إلى تحديد سلطته على نفسه قد يبدو حقيقة بديهية حين تكون الحكومة
الشعبية مجرد حلم، أو مجرد شيء تقرأ عنه على أنه حدث في الماضي البعيد.
ولم يتضايق هذا الرأي بما حدث من انحرافات مؤقتة كانحرافات الثورة الفرنسية
التي جاء أسوأ ما فيها عن عمل قلة مغتصبة، والتي لم تكن في أي حال ناجمة
عن عمل ثابت لمؤسسات شعبية بل عن ثورة فجائية اضطرابية قامت ضد استبداد
الملك والطبقة الأرستقراطية. ولكن قامت مع الزمن جمهورية ديمقراطية احتلت
حيزا واسعا من سطح الكرة الأرضية وأثبتت وجودها كواحدة من أقوى أعضاء
مجموعة الأمم، وبذلك وضعت حكومة منتخبة ومسؤولة موضع الانتقادات والملاحظات
التي تنتظر حقيقة واقعية كبرى. وقد تبين عندئذ ان عبارات مثل "الحكم
الذاتي" و"سلطة الشعب على نفسه" لا تعبر عن حقيقة الوضع الراهن. فـ "الشعب"
الذي يمارس السلطة ليس دائما نفس الشعب الذي يخضع لها، و"الحكم الذاتي"
الذي يتحدث عنه ليس حكم كل فرد من قبل نفسه بل حكم كل فرد من قبل كل
الآخرين. وإرادة الشعب، إضافة إلى ذلك، إنما تعني عمليا إرادة العدد
الأكبر أو إرادة الجزء الأكثر نشاطا من الشعب (إرادة الأكثرية)، أو أولئك
الذين ينجحون في جعل أنفسهم مقبولين على أنهم الأكثرية. فقد يجوز بنتيجة
ذلك أن يرغب الشعب في اضطهاد قسم من أفراده. وهنا يصبح من الضروري أن يُتخذ
ضد هذا الأمر من الاحتياطات ما يُتخذ ضد أي نوع آخر من سوء استعمال
السلطة وعليه تحديد سلطة الحكومة على الأفراد لا يفقد شيئا من أهميته عندما
يكون القابضون على زمام السلطة مسؤولين بانتظام أمام المجتمع، أي أمام
أقوى حزب فيه. وإن وجهة النظر هذه التي استساغتها على السواء عقلية
المفكرين وميول الطبقات الهامة في المجتمع الأوروبي التي تتعارض مصالحها
الحقيقية أو المفروضة مع الديمقراطية، لم تلاق صعوبة في تثبيت نفسها. وأصبح
التفكير السياسي عامة يشمل مسألة "استبداد الأكثرية" في عداد الشرور التي
يجب على المجتمع أن يظل على حذر منها.

كان أكثر الناس ولا يزالون يخشون طغيان الأكثرية كما يخشون سائر أنواع
الطغيان الأخرى، وذلك لأنه ينفّذ في الغالب عن طريق إجراءات السلطات
العامة. ولكن رجال الفكر يرون أن المجتمع حين يكون هو نفسه الطاغية (أي حين
يكون المجتمع بجملته ضد الأفراد) فان ذلك يعني أن أساليب طغيانه لا تنحصر
بالإجراءات التي يمكن أن ينفذها عن طريق موظفيه السياسيين. إن المجتمع قادر
على إصدار الأوامر وعلى تنفيذها بنفسه. فإذا أصدر أوامر خاطئة بدلا من
الصحيحة، أو إن أصدر أوامر في شؤون يجب أن لا يتدخل فيها، فإنه يمارس بذلك
طغيانا اجتماعيا هو أشد عتوا من كثير من ألوان الاضطهاد السياسي لأنه، وإن
لم تدعمه عادة عقوبات شديدة، فان وسائل النجاة التي يتركها قليلة، وهو ينفذ
إلى الصميم في كثير من نواحي الحياة، ويستعبد الروح ذاتها. لهذا كان
الاحتماء من طغيان الحكام غير كاف، وكان لا بد من حماية ضد طغيان الآراء
والمشاعر الشائعة، وضد ميل المجتمع لان يفرض (دون اللجوء إلى العقوبات
المدنية) آراءه الخاصة وطقوسه كقواعد للسلوك، يفرضها حتى على أولئك الذين
لا يوافقون عليها، ليكبل النمو والتطور، ويمنع إن أمكن تكوين أي شخصية
فردية لا تكون منسجمة مع طرقه، ويجبر كل الطبائع على تكييف نفسها طبق
أنموذج من صنعه هو. إن هنالك حدا للتدخل المشروع في استقلال الفرد من قبل
الرأي الجماعي. وإن إيجاد ذلك الحد وصيانته من التجاوز أو الاعتداء عليه
لازم لحسن سلامة شؤون الناس لزوم الاحتماء من الاستبداد السياسي.

ولكن لئن كان من غير المتوقع أن تناقش هذه القضية بصورة عامة. فإن السؤال
العملي: أين يجب وضع الحد، وكيف يمكن تحقيق التوفيق المناسب بين الاستقلال
الفردي وبين السيطرة الاجتماعية؟ هذا السؤال يبقى الموضوع الذي عليه يتوقف
كل شيء تقريبا.

إن كل ما يجعل للوجود قيمة في نظر أي شخص مرتكز على تنفيذ الضوابط التي
تضبط أفعال الآخرين. فيجب إذن فرض بعض قواعد للسلوك عن طريق القانون أولا،
ثم عن طريق الرأي العام في الأشياء الكثيرة التي لا تكون قابلة للإجراءات
القانونية. أما ما هي هذه القيود اللازمة، فهذا هو السؤال الرئيسي في شؤون
البشر.

إننا إذا استثنينا بعض المسائل الواضحة جدا، فان السؤال السابق يبقى بين
المسائل التي لم يصل السعي وراء حل لها إلا إلى قدر ضئيل من التقدم. فلم
يُعطِ عصران أو بلدان حلا واحدا له. لا بل إن الحل الذي قال به عصر أو بلد
كان موضع استغراب الآخر وتعجبه. ومع كل ذلك فان الناس في أي عصر أو بلد لم
يعودوا يرتابون بوجود أي صعوبة فيه، وكأنه موضوع كان الناس متفقين دائما
حوله. والقواعد يجري بها العرف بينهم تبدو لهم جلية في حد ذاتها، ولا تحتاج
إلى تبرير. إن هذا الوهم العام ليس إلا واحدا من الأمثلة على التأثير
السحري للعرف، هذا العرف الذي يؤخذ لا على انه، كما يقول المثل، طبيعة
ثانية فقط، بل يؤخذ دائما وخطأ على أنه طبيعة أولى. إن أثر هذا العرف في
إزالة أي شك يمكن أن يعلق في نفوس الناس بشأن قواعد الأخلاق التي يفرضها
الناس بعضهم على بعض هو في ازدياد مستمر لأن الموضوع أمر لا يوجد بشأنه
اتفاق عام بأنه يحتاج إلى تبرير، لا من قِبَل شخص نحو الآخرين، ولا من
قِبَل شخص نحو نفسه. فقد اعتاد الناس أن يعتقدوا أن مشاعرهم حول موضوعات من
هذا النوع هي أفضل من الأسباب، وانها تجعل التعليل غير ضروري، وقد شجعهم
على هذا الاعتقاد جماعة يطمحون في أن يكونوا بين الفلاسفة. والمبدأ العملي
الذي يرشد هؤلاء الناس إلى آرائهم في تنظيم السلوك البشري هو الشعور
الموجود في رأس كل منهم بأن على الجميع أن يفعلوا كما يريدهم هو ومن على
شاكلته أن يفعلوا.

لا يعترف أحد في الواقع أمام نفسه أن مقياسه في الأحكام مبني على ما يحب
ويرغب، ولكن الرأي الذي يُعطى في مسألة مسلكية ولا يكون مشفوعا بالأسباب لا
يعدو كونه تفضيلا شخصيا. فإذا ذُكرت الأسباب ولم تكن شيئا آخر سوى تفضيلا
مماثلا شعر به آخرون، بقي الأمر مجرد رغبة أناس كثيرين بدلا من واحد. إن
هذا التفضيل الشخصي الذي يؤيده بهذه الطريقة تفضيل الآخرين ليس سببا كافيا
وكاملا فحسب بالنسبة للشخص العادي، بل إنه السبب الوحيد عنده الذي به يبرر
عادة أيا من آرائه في الأخلاق، أو الذوق، أو اللياقة حين لا تكون هذه
الآراء مكتوبة صراحة في عقيدته الدينية، لا بل إنه أيضا مرشده الرئيسي في
تفسيره حتى لتلك العقيدة. وهكذا تكون آراء الناس حول ما هو ممدوح أو مذموم
متأثرة بكل الأسباب المتنوعة التي تتأثر بها رغباتهم بشأن سلوك الغير، وهي
أسباب متعددة بقدر تعدد الأسباب التي تقرر رغباتهم بشأن أي موضوع آخر.
فالأسباب تارة عقلهم، وأخرى تحّيزهم أو خرافتهم، وكثيرا ما تكون عواطفهم
المحبة للمجتمع أو الكارهة له، أو حسدهم أو غيرتهم، أو غطرستهم أو
ازدراؤهم. وأكثر الأسباب شيوعا هي محبتهم لأنفسهم أو خوفهم عليها: أو
مصلحتهم الشخصية المشروعة أو غير المشروعة. وحيثما وجدت طبقة عالية فان
القسم الأكبر من أخلاق البلاد ينبثق عن مصالح تلك الطبقة وعن شعورها
بالتفوق الطبقي. فالأخلاق بين الإسبارطيين وبين الأرقاء، بين المزارعين
وبين الزنوج، بين الأمراء وبين الرعية، بين النبلاء وبين مستأجري أراضيهم،
بين الرجال وبين النساء؛ هذه الأخلاق كانت في معظمها وليدة تلك المصالح
والمشاعر الطبقية. والعواطف التي تتولد بهذه الطريقة يرتد مفعولها على
المشاعر الأخلاقية لأعضاء الطبقة العليا في علاقاتهم فيما بينهم، أما حين
توجد طبقة كانت سابقا عالية وفقدت تفوقها، أو كان تفوقها غير محبوب، فان
العواطف الأخلاقية السائدة عندئذ غالبا ما تحمل معها طابع الكراهية الملحة
للتفوق. وهناك مبدأ خطير آخر من المبادئ التي يفرضها القانون أو الرأي
العام والتي تحدد قواعد السلوك في الفعل أو في رحابة الصدر، هذا المبدأ هو
خنوع البشر تجاه ما يحبه أو ما يكرهه أسيادهم المؤقتون أو أصنامهم. إن هذا
الخنوع، الذي هو في الأصل أناني، ليس رياء كله: إنه يثير عواطف أصيلة من
المقت والكراهية، وقد دفع البشر إلى إحراق السحرة والمارقين. لقد كان
لمصالح المجتمع حتما، العامة منها والواضحة، نصيب، ونصيب كبير، بين تلك
العوامل الكثيرة التي عملت في توجيه العواطف الأخلاقية، ولكن ذلك لم يكن
بدافع الفكر والعقل، أو بسبب قيمة العواطف نفسها، بقدر ما كان نتيجة
التعاطف أو الكراهية الذَين انبثقا عن تلك العواطف نفسها. إن ذلك التعاطف
وتلك الكراهية لم تكن لهما أي صلة بمصالح المجتمع، ولكنهما أثبتتا وجودهما
كقوتين كبيرتين في إيجاد الفضائل.

هكذا فإن ما يحبه المجتمع وما يكرهه، أو ما يحبه وما يكرهه قسم كبير منه،
هو العامل الرئيسي الذي حدد عمليا القواعد التي يجب مراعاتها من قبل الجميع
تحت طائلة عقوبة القانون أو الرأي العام. وحين جاء أناس سبقوا المجتمع في
التفكير والشعور فانهم بشكل عام تركوا الوضع الراهن دون ان يحملوا عليه من
حيث المبدأ، رغما عن أنهم قد يكونوا قد تصادموا معه في بعض التفاصيل. فقد
شغلوا أنفسهم ببحث ما يجب على المجتمع أن يحب أو يكره بدلا من البحث فيما
إذا كان ما يحبه المجتمع أو يكرهه يجب أن يفرض كقانون على الأفراد. لقد
آثروا أن يحاولوا تغيير شعور الناس تجاه النقاط التي كانوا هم أنفسهم
يجحدونها بدلا من أن يتضافروا في الدفاع عن الحرية مع عموم الجاحدين.
والقضية الوحيدة التي ثابروا فيها على جعل النقاش على مستوى عال وبناء على
مبادئ هي قضية العقيدة الدينية: هذه القضية التي ناقشها أشخاص هنا وهناك
ليست وسيلة تهذيب وتثقيف فحسب، بل هي أيضا مثال واضح على أن ما يَمّس بالحس
الأخلاقي ليس معصوما عن الخطأ، لان عنف المشادات الدينية عند الجلّ
المتعصب من أوضح الأمثلة على الحس الأخلاقي. إن أولئك الذين كانوا أول من
حطم نِيْرَ ما كان يسمى بالكنيسة العالمية لم يكونوا يريدون السماح بوجود
خلاف بين الآراء الدينية، شأنهم في ذلك شأن الكنيسة نفسها. ولكن لما برد
وطيس المعركة دون أن يفوز أي فريق بانتصار حاسم، واضطرت كل كنيسة أو فرقة
دينية إلى تحديد أمانيها إلى حد الاحتفاظ بما نالته من نفوذ، وجدت
الأقليات، التي لم يكن لها أمل في أن تصبح أكثرية، نفسها مضطرة إلى أن تطلب
ممن لم تكسبهم إلى جانبها أن يسمحوا لها بان تختلف عنهم. وفي هذا الميدان
وحده تقريبا أمكن لحقوق الفرد ضد المجتمع أن تثبتت على أسس عامة من المبادئ
وظهرت معارضة مكشوفة لادعاء المجتمع بحقه في ممارسة سلطة ضد المنشقين. إن
الكّتاب الكبار الذين يدين لهم العالم بالفضل في ما أحرزه من حرية دينية
قد أكدوا أن حرية الضمير حق لا يُقهر واستنكروا بشكل قاطع أن يكون الشخص
مسؤولا أمام الآخرين عن عقيدته الدينية. إلا ان عدَم التسامح من طبيعة
البشر في كل ما يهمهم حقيقةٌ، ولم تتحقق الحرية الدينية بصورة عملية في أي
مكان إلا حيث دعمتها اللامبالاة الدينية التي تكره أن تُعكّر صفوها
المنازعات اللاهوتية. ان عقل جميع المتدينين، حتى في اكثر البلاد تسامحا،
يقر واجب التسامح ولكن مع تحفظات ضمنية. فقد يقبل شخص الاختلاف في شؤون حكم
الكنيسة، ولكن لا في تعاليمها المقررة، وقد يتقبل آخر كل شخص عدا البابوي
أو الموحِّد، وقد يتقبل ثالث كل من يؤمن بدين مُنزَل، وقد يوسع بعضهم حدود
التسامح ولكنهم يقفون عند تحد الإيمان بالله والحياة الأخرى. اما حيث لا
تزال عاطفة الأكثرية أصيلة وشديدة فإننا نجد أنها لم تخفف شيئا يذكر من
غلوها في وجوب إطاعتها.

إن وطأة الرأي العام في إنكلترا أشد مما هي في اكثر بلاد أوروبا، على الرغم
من أن وطأة القانون قد تكون أخف، وما ذلك إلا بسبب الظروف الخاصة لتاريخ
إنكلترا السياسي. فهناك قلق بالغ من جراء التدخل المباشر في سلوك الفرد من
قبل السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية، ولا يأتي ذلك عن مجرد الغيرة
على استقلال الفرد بقدر ما يأتي عن العادة المستحكمة في النظر إلى الحكومة
على انها تمثل مصلحة أخرى معارضة لمصلحة الشعب. فالأكثرية لم تتعلم بعد أن
تشعر بأن سلطة الحكومة سلطتها، وآراءها آراؤها. ومتى تعلمت الأكثرية ذلك،
فالأرجح أن تتعرض الحرية لغزو الحكومة بقدر ما هي معرضة الآن لغزو الرأي
العام. ولكن لا يزال هناك قدر محترم من الشعور على استعداد للقيام ضد أية
محاولة من قبل القانون للسيطرة على الأفراد في شؤون لم يسبق لهم أن تعودوا
على سيطرة القانون فيها. وذلك بغض النظر عما إذا كان الأمر يدخل في نطاق
سيطرة القانون المشروعة أو لا يدخل. إن هذا الشعور السليم بمجمله قد يكون
أحيانا في غير محله. وليس هناك في الواقع أي مبدأ معترف به لقياس ملائمة أو
عدم ملائمة التدخل الحكومي، وإنما يقرر الناس ذلك وفقا لأهوائهم الشخصية.
فمنهم من يهيب بالحكومة إلى التدخل والعمل كلما رأى خيرا يجب فعله أو شرا
يجب معالجته وتلافيه، بينما يفضل غيرهم أن يتحملوا أي مقدار كان من الشر
الاجتماعي على أن يضيفوا إلى مصالح الناس التي تُخضع للسيطرة الحكومية
مصالح أخرى. والناس يأخذون هذا الجانب أو ذاك في أي قضية وفق التوجيه العام
لعواطفهم، أو وفقا لمقدار اهتمامهم بالأمر الذي يقترح أن تقوم به الحكومة،
أو وفقا لاعتقادهم بأن الحكومة، سوف تؤديه أو لن تؤديه بالطريقة التي
يفضلونها، ولكن قَلّ أن يكون أخذهم هذا الجانب أو ذاك بناء على رأي يتمسكون
به حول الأمور التي يكون من المناسب أن تقوم بها الحكومة. وبناء على عدم
وجود أي مبدأ أو قاعدة، يلوح لي ان كلا من الجانبين يخطئ الآخر، وأن تدخل
الحكومة يتعادل فيه عدد المرات التي يساء فيها ابتغاؤه وعدد المرات التي
يساء فيها استنكاره.

إن غرض هذا البحث هو تأكيد مبدأ بسيط جدا جدير بأن ينظم معاملات المجتمع مع
الفرد من حيث الإكراه والسيطرة، أكانت الأساليب المستعملة قوة مادية على
شكل عقوبات قانونية أم كانت الضغط المعنوي للرأي العام. إن ذلك المبدأ هو
أن الغاية الوحيدة التي تجيز للبشر، أفرادا كانوا أم جماعة، أن يتدخلوا في
حرية أفعال أي واحد منهم إنما هي حماية الذات. أي إن الغرض الوحيد الذي من
أجله يمكن ممارسة السلطة بحق في أي مجتمع متمدن على عضو منه رغم إرادته
إنما هو دفع الأذى عن الغير. فلا يكفي أن يكون الهدف الخير الخاص للعضو،
ماديا كان هذا الخير أم معنويا. ولا يجوز عدلا إرغامه على القيام بأمر أو
على الامتناع عنه لأن ذلك خير له، أو لأن ذلك يجعله أسعد حالا، أو لأن
الآخرين يرون أن من الحكمة والصواب فعل ذلك، إن هذه الأسباب كلها وجيهة،
تنفع في التباحث معه، أو المناقشة معه، أو في إقناعه، أو في رجائه، ولكنها
لا تبرر إرغامه أو إلحاق الأذى به إن فعل عكس ما يطلب منه. ولا يبرر ذلك
إلا الحساب بأن السلوك الذي يقصد إبعاده عنه سوف ينجم عنه ضرر يصيب الغير:
فالجزء الوحيد من سلوك أي فرد، الذي يكون مسؤولا عنه تجاه المجتمع، هو ذلك
الذي يمس الغير. أما الجزء الذي يمس الشخص وحده فان استقلاله فيه مطلق وحق.
فالفرد سيد على نفسه في عقله وفي جسمه.

قد يكون من الضروري أن نقول هنا إن هذا المذهب ينطبق فقط على أفراد النوع
الإنساني الذين وصلوا إلى مرحلة النضوج في ملكاتهم. فنحن لا نتكلم في
الواقع عن الأطفال أو الأحداث الذين هم دون السن التي يحددها القانون
للرجولة أو لنضج النساء. أما الذين لا يزالون بحاجة إلى عناية الغير بهم،
فتجب حمايتهم من أفعالهم كما تجب حمايتهم من الأذى الخارجي. كذلك يمكن
للسبب نفسه أن نخرج من دائرة اعتباراتنا المجتمعات المتخلفة التي يمكن
اعتبار الأقوام التي تؤلفها أقواما قاصرة. فالصعوبات المبكرة التي تعترض
سبيل التقدم الذاتي من الخطورة بحيث لا يبقى هناك أي مجال للمفاضلة بين
وسائل التغلب عليها. والحاكم المشبَّع بروح الإصلاح يجوز له أن يستعمل أي
وسيلة توصله إلى الهدف الذي لا يبلغه بأي من الوسائل الأخرى. إن الاستبداد
أسلوب شرعي في حكم البرابرة شريطة أن تكون الغاية تحسين حالهم، وتحقيق تلك
الغاية فعلا يبرر تلك الواسطة. والحرية كمبدأ لا مجال لتطبيقها في أي من
الحالات التي توجد قبل ذلك الوقت الذي يصبح فيه البشر قادرين على التحسن عن
طريق المباحثات الحرة بين أطراف تحققت المساواة بينهم. حتى ذلك الحين لا
يكون أمامهم إلا الطاعة لعاهل أو لملك جبار عادل إن أسعفهم حظهم بوجوده.
ولكن ما ان يكتسب البشر القدرة على الانصياع إلى الاقتناع أو الإقناع في
تحسين أحوالهم (وهذه مرحلة وصلت إليها منذ زمن بعيد كل الأمم التي يهمنا
أمرها هنا) حتى يصبح الإكراه في شكله المباشر أو في شكل إيذاء المخالف
وعقابه أمرا غير مقبول إذا قُصد استعماله كوسيلة لخيرهم، حتى وإن بقي
مسموحا به في حالة ضمان أمن الغير.

من المناسب أن أذكر هنا أني أتنازل عن أي فائدة تدعم حجتي يمكن ان تأتيني
من فكرة الحق المجرد كشيء مستقل عن المنفعة. فانا اعتبر المنفعة الملاذ
النهائي في كل المسائل الأخلاقية: ولكنها يجب أن تكون المنفعة في أوسع
معانيها، القائمة على مصالح الإنسان الدائمة من حيث هو مخلوق تقدمي. إن هذه
المصالح كما أراها تسمح بإخضاع الفعل العفوي الفردي للقيد الخارجي في حالة
واحدة فقط هي حين تكون أفعال الفرد ماسة بمصالح الآخرين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.univ-batna2.alafdal.net
MAZOUZ MOHAMED
...::|رئيس المنتدى|::...
...::|رئيس المنتدى|::...
MAZOUZ MOHAMED


مساهماتي : 5235
تاريخ الميلادي: : 01/07/1991
تاريخ التسجيل : 22/07/2009
عمـــري: : 32
الموقع : www.univ-batna2.alafdal.net

بحوث ودراسات سياسية Empty
مُساهمةموضوع: رد: بحوث ودراسات سياسية   بحوث ودراسات سياسية Icon_minitimeالإثنين 21 فبراير - 16:04

قد يظهر هذا المذهب غير جديد وقد يبدو لبعضهم كحقيقة أولية بديهية، ولكن
بالرغم من ذلك ليس هناك مذهب آخر يتعارض مع الاتجاه العام للرأي العام
والعرف الحاليين كما يتعارض هذا المذهب. فلقد بذل المجتمع جهودا جبارة في
محاولة إرغام الناس على الامتثال لآرائه في الصلاح الشخصي والاجتماعي.
وكانت الدول القديمة تظن، وأيّدها الفلاسفة القدماء في ذلك، ان من حقها
ممارسة تنظيم كل ناحية من نواحي السلوك الخاص بواسطة السلطة العامة بدعوى
ان الدولة شديدة الاهتمام بالتربية الجسدية والعقلية لكل واحد من مواطنيها،
وهذه طريقة في التفكير يمكن قبولها بالنسبة لجمهوريات صغيرة محاطة بأعداء
أقوياء، وهي في خطر دائم من هجوم خارجي أو اضطراب داخلي، وقد تكون فيها
الفترة القصيرة من التراخي وإعطاء الأفراد أمر قيادة أنفسهم، السبب في ضربة
قاضية تصيبها بحيث لا تستطيع عندئذ انتظار الخيرات الدائمة التي تنجم عن
الحرية. أما في العالم الحديث فان اتساع المجتمعات السياسية، وفصل السلطات
الروحية عن السلطات الزمنية (الذي وضع إدارة ضمائر الناس في أيد غير الأيدي
التي تهيمن على شؤونهم الدنيوية) قد حالا دون تدخل القانون كثيرا في دقائق
الحياة الخاصة. ولكن آلات الضغط المعنوي ضد الانحراف عن الرأي السائد قد
استعملت بشدة أعظم في المسائل التي تمس الفرد مما في المسائل الاجتماعية.
حتى الدين، وهو أقوى العناصر التي تدخلت في تكوين الشعور الأخلاقي، كان
دائما خاضعا لمطامع سلطة كهنوتية تحاول السيطرة على مختلف نواحي السلوك
البشري أو لروح التزَمُت البيوريتاني. ومن المصلحين العصريين الذين وضعوا
أنفسهم موضع المعارضة الشديدة لديانات الماضي مَن لم يكن اقل حماسا من
الكنائس أو الفرق الدينية في تأكيد حق السيطرة الروحية، لاسيما الفيلسوف
أوغست كونت الذي نراه في نظامه الاجتماعي الذي نشره في كتابه "نظام في
السياسة الوضعية" يهدف إلى إقامة استبداد اجتماعي يتسلط على الفرد (ولو
بالوسائل المعنوية اكثر مما بالوسائل القانونية) وهو استبداد يفوق ما فكر
به اشد الفلاسفة القدماء صلفا في تفكيرهم السياسي.

وبالإضافة إلى المذاهب الخاصة لبعض المفكرين، فان في العالم على سعته ميلا
متزايدا إلى توسيع سلطات المجتمع على الفرد، بدون ضرورة مبررة، بقوة الرأي
العام وبقوة التشريع أيضا. ولما كانت التغيرات التي تحدث في العالم تتجه
جميعها إلى تعزيز سلطة المجتمع وتضييق سلطة الفرد، فان هذا التعدي من قبل
المجتمع ليس من الشرور التي تميل إلى الزوال من تلقاء نفسها، بل انه على
العكس من ذلك سوف ينمو ويتفاقم. ان استعداد البشر، حكاما ومواطنين، لفرض
آرائهم وميولهم على الغير كقاعدة للسلوك استعداد قوي وهو مدعوم بتأييد قوة
تأتيه من أفضل المشاعر السامية ومن أحط المشاعر التي تمر بها الطبيعة
الإنسانية، حتى ليكاد يتعذر عليه ان يقف عند أي حد أقل من إرادة السلطة.
ولما كانت السلطة في تزايد لا في تناقص (إلا إذا ارتفع حاجز قوي من القناعة
الأخلاقية في وجه إساءة الاستعمال)، فان علينا أن نتوقع ضمن ظروف العالم
الحالية، ازديادا في قوة هذا الاستعداد.

قد يكون من الملائم قبل الدخول في صُلب الرسالة ان نحصر البحث أول الأمر في
فرع واحد منه، وهو ذلك الفرع الذي يعترف الرأي السائد حاليا، ولو اعترافا
جزئيا، بان المبدأ الذي أوردته سابقا ينطبق عليه. ان هذا الفرع هو حرية
الفكر، ويستحيل ان نفصل عنه حرية القول والكتابة. وبالرغم من ان هذه
الحريات تشكل، إلى حد كبير، جزءا من الأخلاق السياسية لكل البلاد التي تدعي
التسامح الديني والمؤسسات الحرة، فان الأسس الفلسفية والعملية التي تقوم
عليها ليست مألوفة من قبل الفكر العام، وهي لم تحط من الكثيرين، وحتى من
قادة الفكر، بالاعتبار والتقدير اللائقين كما كان متوقعا. فإذا أحسن فهم
هذه الأسس اصبح تطبيقها ممكنا في اكثر من قسم واحد من الموضوع، وبذا يكون
البحث الوافي لهذا القسم من المسألة خير مقدمة لما تبقى من الموضوع. وإني
لأرجو من الذين لن يجدوا شيئا جديدا فيما سوف أقوله بعد قليل أن يعذروني إن
أنا خضت في هذا الموضوع مرة جديدة بعد أن كان موضوعا للبحث مرات عديدة
خلال ثلاثة قرون مضت.

الفصل الرابع: في حدود سلطة المجتمع على الفرد

لنسأل الآن: ما هو الحد الشرعي لسيادة الفرد على نفسه؟ أين تبدأ سلسلة
المجتمع؟ ماذا يجب أن يعود للفردية من الحياة البشرية وماذا يجب أن يعود
للمجتمع؟

ان كلا منهما ينال حصته العادلة إذا هو احتفظ بما يخصه أو يعنيه. فيكون
للفردية جزء الحياة الذي يهم الفرد، وللمجتمع الجزء الذي يهم المجتمع.

ان المجتمع غير مؤسس على عقد ولا غاية ترجى من اختراع عقد لاستخلاص
الواجبات الاجتماعية منه. ولكن من ينال حماية المجتمع يكون مدينا له مقابل
ذلك، والعيش في المجتمع يقتضي حتما أن يتقيد كل فرد بخطة من السلوك تجاه
الآخرين. يتألف هذا السلوك، أولا، من عدم إضرار بتلك المصالح التي يجب أن
تُعتبر حقوقا إما بموجب نص قانوني صريح أو بموجب تفاهم ضمني. ويتألف هذا
السلوك، ثانيا، من تحمل كل فرد نصيبه (الذي يُقَرر وفق مبدأ منصف) مما
تقتضيه صيانة المجتمع أو أعضاءه من أتعاب وتضحيات. ويحق للمجتمع مهما كلف
الأمر ان يفرض تحقيق هذين الشرطين على من يحاول الامتناع عن ذلك. وليس هذا
كل ما يجوز أن يفعله المجتمع. فقد تكون أفعال الفرد ضارة بالغير أو قليلة
الاهتمام بخيرهم دون أن تكون مخالفة لحقوقهم المقررة، ويجوز عندئذ معاقبة
المذنب عن طريق الرأي العام لا عن طريق القانون. وحينما ينطوي أي جزء من
سلوك الفرد على ضرر بمصالح الغير تصبح للمجتمع سلطة عليه، ويطرح على بساط
البحث عندئذ السؤال القائل: هل يفيد الصالح العام من هذا التدخل أم لا؟
ولكن لا موضوع لهذا السؤال إذا كان سلوك الفرد لا يمس مصالح أحد سواه، أو
ليس من الضروري ان يمسها إلا إذا أرادوا هم ذلك (بشرط ان يكون المعنيون
بالغير بالغين وذوي قدر كاف من الفهم). وعلى كل حال يجب أن يكون للفرد مطلق
الحرية القانونية والاجتماعية في أن يفعل ويتحمل تبعة فعله.

من الخطأ الفادح في فهم هذه النظرية ان نزعم أنها نظرية لا مبالاة أنانية
تدعي أن لا شأن للناس بسلوك بعضهم مع بعض وان ليس من الواجب ان يهتموا
بمصالح الغير وخيره إلا إذا كانت تمس مصالحهم. فالحاجة تدعو لا إلى الإنقاص
بل إلى الزيادة في كل جهد غير مغرض يُصرف في رعاية خير الغير، ولكن الحب
غير المغرض للخير يستطيع أن يجد وسائل أخرى لإقناع الناس بخيرهم غير السياط
بمعناها الحرفي والمجازي. إني آخر من يحط من قيمة الفضائل التي تعنى
بالذات، وان جاءت بعد شيء فإنما تأتي عندي في الدرجة الثانية من الأهمية
بعد الفضائل الاجتماعية، ومن واجب التربية أن ترعاهما معا. ان التربية تعمل
عن طريق الإقناع كما تعمل عن طريق الإرغام فإذا انقضت مرحلة التربية يكون
من الواجب استعمال الطريقة الأولى، أي الإقناع، في ترسيخ الفضائل التي
تقصد الذات وتعنيها. والناس مدين بعضهم لبعضهم الآخر بالمساعدة على التمييز
بين الأحسن والأسوأ، والتشجيع على اختيار الأول وتجنب الثاني، ويجب ان
يحفز بعضهم بعضهم الآخر على ممارسة ملكاتهم العليا وتوجيه مشاعرهم وأهدافهم
نحو أغراض حكيمة سامية لا حمق فيها ولا انحطاط. ولكن لا يحق لفرد أو جماعة
أن يقول لشخص آخر بالغ انه يجب عليه أن لا يفعل بحياته كما يشاء. فالشخص
هو صاحب الشأن الأول فيما يختص بخيره الذاتي، ولا يمتد بشأن الآخرين فيه
إلا في حالات العلاقة الشخصية القوية.وما شأن المجتمع به كفرد (فيما عدا
سلوكه نحو الغير) إلا شأن جزئي غير مباشر. وحتى الشخص العادي نفسه فانه
يملك من الوسائل لمعرفة مشاعره وظروفه الخاصة ما يفوق ما يملكه أي شخص آخر.
ان تدخُّل المجتمع للتحكم في حكمه وأغراضه الخاصة به لا بد أن يقوم على
افتراضات عامة قد تكون خاطئة، وإن كانت صحيحة فقد يسيء تطبيقها على الحالات
الفردية أناس يجهلون تلك الحالات كما يجهلها أولئك الذين ينظرون إليها من
الخارج فقط. في هذا الدائرة من شؤون البشر يقع مجال عمل الفردية. ففي سلوك
البشر نحو بعضهم بعضا لا بد من مراعاة قواعد عامة ليعرف الناس ما يجب أن
يتوقعوا. أما فيما يختص بالفرد، فان له الحق في ممارسة انطلاقه الفردي
بحرية. يجوز أن يقدم إليه الآخرون اعتبارات تساعده في حكمه أو نصائح تقوي
إرادته حتى ولو كان الأمر تطفلا منهم، إلا أنه هو الحاكم الأخير. وان الشر
الناجم عن السماح للغير بإرغامه على ما يرون فيه مصلحته يرجح على كفة كل ما
قد يرتكبه من أخطاء رغم النصح والتحذير إذا هو بقي بدون هذا الإرغام.

أنا لا أقصد القول ان نظرة الغير للشخص يجب أن لا تتأثر قط بما عنده من
حسنات أو نقائص في صفاته التي تخص ذاته، فذلك غير ممكن ولا مرغوب فيه. فهو
إن شعر في أي من الصفات الآيلة إلى خيره، فانه إلى هذا الحد حري بالإعجاب،
إذ يكون بهذا القدر أقرب إلى كمال الطبيعة البشرية لا مثالي. وان كان شديد
الافتقار إلى هذه الصفات، تلا ذلك ظهور الشعور المناقض للإعجاب. فهناك درجة
من الحماقة، أو درجة مما قد يسمى الحطة أو الخسة في الذوق، قد لا تبرر
إيذاء مقترفها، ولكنها تجعله جديرا بالاشمئزاز، بل وجديرا بالاحتقار في
الحالات المتطرفة. ولو أنه لا يسيء إلى أحد، فان تصرفه قد يضطرنا إلى الحكم
عليه والشعور نحوه بانه أحمق أو من درجة أدنى من ذلك. ولما كان هو يفضل ان
يتجنب مثل هذا الحكم والشعور، فان في تحذيره مسبقا من العواقب الوخيمة
التي يعرض نفسه لها خدمة له. ليس في الإمكان تأدية هذه الخدمة بحرية أكثر
مما تسمح به الآداب العامة المرعية في الوقت الحاضر، فيقول الواحد للآخر
انه يظن أنه مخطئ دون ان يُعتبر متطفلا أو غير متأدب. ولدينا الحق في ان
نتصرف بطرق شتى بحسب رأينا السيء في أي شخص، لا باضطهاد فرديته بل بممارسة
فرديتنا. فنحن غير مضطرين مثلا إلى معاشرته، ولنا الحق في تجنبها (ولكن
بدون التفاخر بإظهارها) إذ لنا الحق في اختيار عِشرة من نرضى بهم. ومن
حقنا، لا بل ومن واجبنا، أن نُحذر الآخرين منه، ان رأينا ان قدوته ذات
تأثير ضار بمن يعاشرونه. ولنا أن نؤثر الغير عليه في المناصب، إلا في تلك
التي ترمي إلى تحسينه. ولهذه الأسباب قد ينال المرء عقوبات شديدة على أيدي
الغير عن أخطاء لا تمس مباشرة إلا ذاته. ولكنه إنما ينالها كنتائج طبيعية
عفوية للأخطاء بالذات، لا لأنها فرضت عليه كقصاص. فان من يبدي تهورا أو
عنادا أو اغترارا بذاته، من لا يستطيع العيش ضمن إمكانيات معتدلة، أو لا
يمسك نفسه عن الإباحية المؤذية، أو يندفع في الشهوات الحيوانية على حساب
أصحاب الشعور والتعقل؛ يجب أن يتوقع أن ينحط في نظرة الغير إليه وشعورهم
نحوه، ولا حق له في التذمر من ذلك، إلا إذا استحق عطفهم ورضاهم بامتياز خاص
في علاقاته الاجتماعية، فحظي بنعمة في أعينهم لا تتأثر بنقائصه تجاه نفسه.


أريد أن أثبت أن المتاعب التي لا يمكن فصلها عن حكم الآخرين على الفرد بسوء
تصرفه إنما هي المتاعب الوحيدة التي يجوز أن يتعرض لها بسبب ذلك الجزء من
سلوكه وخلقه الذي يتعلق بمصلحته الخاصة وحدها ولا يمس مصالح الآخرين في
علاقتهم معه. أما الأفعال الضارة بالغير فإنها تقتضي معالجة أخرى تختلف
تماما. فالتعدي على حقوقهم، أو تكبيدهم خسارة لا تبررها حقوقه، أو الكذب أو
المواربة في معاملتهم، أو الاستئثار غير المشروع بالفوائد دونهم، أو حتى
التخلي الأناني عن حماستهم من الأذى، كل هذا يستحق الاستنكار الأخلاقي، بل
والجزاء الأخلاقي والقصاص في الحالات الخطيرة. وليست هذه الأفعال وحدها هي
التي تعتبر رذيلة أيضا وتستوجب الاستهجان الذي قد يبلغ حد المقت
والكراهية. ان القسوة، و الحقد أو الضغينة، والحسد الذي هو في الواقع أفظع
الأهواء الضارة بالمجتمع، والرياء أو عدم الإخلاص، والنزق أو سرعة الغضب
لأتفه الأسباب، والحنق دون استفزاز متكافئ، وحب التسلط على الغير، والرغبة
في الاستئثار بأكثر من النصيب الشخصي من الفوائد، والكبرياء التي تتلذذ
بامتهان الغير، والأنانية التي تعتبر الذات ومالها أهم من أي شيء آخر. ان
هذه الصفات جميعا رذائل وهي تشكل طبعا أخلاقيا شريرا، وهي ليست كالأخطاء
الخاصة بالسلوك الشخصي المذكورة آنفا والتي لا تكون في حقيقتها رذائل ولا
شرورا مهما تمادى الإنسان فيها. قد تكون هذه برهانا على أي مقدار من
الحماقة أو قلة الكرامة الذاتية أو احترام الذات، ولكنها لا تستوجب اكثر من
الاستنكار الأدبي إذا انطوت على إخلال بالواجب نحو الغير، الذي من أجله
يجب أن يعتني الفرد بنفسه. ان ما يسمى بالواجب نحو أنفسنا لا يعتبر أمرا
واجبا من الوجهة الاجتماعية، إلا حين تجعله الظروف في نفس الوقت واجبا نحو
الغير. وإذا كان الواجب نحو الذات يعني شيئا أكثر من الفطنة أو التبصر
بالعواقب فإنما يعني احترام الذات أو التطور الذاتي، وما من أحد مسؤول عن
أي من هذه تجاه الغير، لأنه ليس من مصلحة البشر ان يكون مسؤولا عن أي منها.


ان الفرق بين فقدان الاعتبار الذي يتعرض له المرء بتقصيره في الفطنة أو
الكرامة الشخصية، وبين الاستنكار الذي يناله جزاء على افتئاته على حقوق
الغير، ليس مجرد فرق اسمي. فهناك فرق كبير في مشاعرنا وسلوكنا تجاهه بين ما
إذا كان امتعاضنا منه في أمور نظن أن من حقنا السيطرة عليه فيها، وبين ما
إذا كان في أمور نعرف ان لا حق لنا بالتدخل فيها. فان كدّرنا، كان لنا الحق
في الإعراب عن امتعاضنا والابتعاد عنه، ولكن ليس لنا ان ننغص عليه حياته.
لنفكر في أنه يتحمل أو سيتحمل مجمل جزاء أخطائه، وان أفسد حياته بسوء
إرادته، فليس في ذلك سبب يدعونا إلى زيادة إفسادها، وحري بنا بدلا من طلب
قصاصه ان نحاول التخفيف من قصاصه بان نبين له كيف يمكنه ان يتجنب أو يعالج
الشرور التي يجلبها عليه سلوكه. قد يكون موضع شفقتنا أو امتعاضنا، ولكن يجب
ان لا يكون موضع سخطنا أو نقمتنا وان لا نعامله كعدو للمجتمع. وأقصى عمل
نستطيع أن نبرره أمام أنفسنا هو ان نتركه وشأنه إذا نحن لم نشأ أن نتدخل
بحسن نية بإبداء اهتمامنا به و غيرتنا عليه. إلا ان وجه المسألة يختلف إذا
هو خالف الأنظمة اللازمة لحماية بني جنسه منفردين ومجتمعين. فعواقب أفعاله
الوخيمة لا تقع عليه عندئذ بل على الغير، وعلى المجتمع ان يقابله بالمثل
دفاعا عن أعضائه، وأن يفرض عليه أو يذيقه الألم بقصد القصاص، وإن يحرص على
ان يكون قصاصا صارما. انه في هذه الحالة مجرم واقف أمام القضاء، ونحن
مطالبون بالحكم عليه وبتنفيذ هذا الحكم أيضا بطريقة أو أخرى. اما في الحالة
الأولى فنحن غير مكلفين بإيلامه إلا بقدر ما يترتب عرضا على استعمالنا في
تنظيم شؤوننا الخاصة لنفس الحرية التي نبيحها له في تنظيم شؤونه.

يأبى الكثيرون التسليم بهذا التمييز بين ذلك الجزء من حياة الإنسان الذي
يخصه وحده وذاك الذي يخص الغير. قد يسألون كيف يمكن ان لا يبالي بقية أعضاء
المجتمع بأي جزء من حياة عضو فيه. ما من أحد مخلوق مستقل منعزل، ومن
المستحيل ان يأتي شخص عملا يسبب لنفسه ضررا خطيرا أو ضررا دائما دون ان يصل
أذاه إلى ذوي قرباه على الأقل، وكثيرا ما يتعداهم إلى غيرهم. ان أضر
بأملاكه، أضر بالمنتفعين منها مباشرة أو غير مباشرة، وأفقد المجتمع جزءا من
موارده قَلّ أو كثر. وإن افسد قواه البدنية أو العقلية، لما أوقع الشر على
من يعتمدون عليه في جزء من سعادتهم فقط، بل لجعل نفسه أيضا غير صالح
لتأدية الخدمات التي هو مدين بها لعموم البشر، وقد يصبح عالة على برّهم
وإحسانهم. قد يقال أخيرا، إن المرء قد لا يسبب أذى مباشرا برذائله أو
حماقته ولكنه يظل مؤذيا بقدوته، ويجب ان يرغم على ضبط نفسه لئلا يفسد أو
يضل الآخرين الذين يرون سلوكه أو يعرفونه.

وقد يقال بالإضافة إلى ذلك: لو اقتصرت تبعات سوء السلوك على الفرد الشرير
أو غير المفكر وحده، فهل يجب على المجتمع ان يسمح لأناس بان يرشدوا أنفسهم
وقد اتضح انهم غير أهل لذلك؟ ان كان الأطفال وغير البالغين حريين بان
نحميهم من أنفسهم، فهل المجتمع غير ملزم كذلك بحماية الأشخاص البالغين
العاجزين عن سياسة أنفسهم؟ ولئن كان في القمار أو السكر أو الكسل أو
الدعارة إفساد للسعادة وعرقلة للتقدم والتحسن، كأكثر ما يحدث في الأفعال
التي يحرمها القانون، فلماذا لا يحاول القانون منع هذه الآفات بقدر ما هو
ممكن عمليا واجتماعيا؟ ثم الا يجب على الرأي العام أن يكمل نقائص القانون
التي لا مفر منها وان ينظم على الأقل قوة بوليسية ضد هذه الرذائل، وان يفرض
عقوبات اجتماعية صارمة على مقترفها؟ كذلك قد يقال إن هذه المسألة لا
تتناول مسألة تقييد الفردية، ولا إعاقة إجراء تجارب جديدة في الحياة، وإنما
هي معنية بمنع أمور جربت واستنكرت منذ بداية العالم إلى اليوم. أمور أظهرت
الخبرة أنها غير مفيدة ولا مناسبة لفردية أي إنسان. الواقع انه لا بد من
مرور زمن طويل على الاختبار قبل ان تصبح حقيقة أخلاقية ما معتبرة على أنها
أصبحت مستقرة، وأن المرغوب فيه منع جيل بعد آخر من السقوط في نفس الهوة
التي قضت على السلف.

إني أجزم هنا بان الضرر الذي يلحقه شخص بنفسه قد يكون ذا أثر خطير على
الغير ممن لهم علاقة به، وبدرجة أقل على المجتمع عموما. فإذا قاد مثل هذا
السلوك شخصا إلى الإخلال بواجب واضح نحو الغير، فان القضية تخرج عن نطاق
الشؤون الذاتية وتصبح في متناول التنديد الأخلاقي بمعناه الصحيح.

وان عجز إنسان عن دفع ديونه، أو عن إعالة أسرته وتربية أطفاله بسبب تبذيره
فانه يستحق الاستهجان بل والقصاص، ولكن عقابه يكون على إخلاله بواجبه نحو
أسرته ودائنيه لا على إسرافه وتبذيره. ولو حول الموارد التي يجب أن تخصص
لهم إلى مشاريع استثمارية حكيمة لما تغير ذنبه الأخلاقي. لقد قتل جورج
بارنويل عمه ليحصل على مال لخليلته، ولو أنه فعل ذلك لينشئ لنفسه عملا
تجاريا لما تبدل الحكم بإعدامه. ثم إن الشخص الذي يجلب الأسى والغم لأسرته
بإدمانه على العادات السيئة يستحق التوبيخ على عدم لطفه وعلى نكرانه
للجميل. ويستحق ذلك أيضا على ممارسة عادات ليست شريرة في حد ذاتها ولكنها
مؤلمة لأولئك الذين يقضي حياته معهم أو يعتمدون عليه في أسباب رفاهيتهم.

وكل من يقّصر في الاعتبارات التي تقتضيها مصالح الغير ومشاعرهم دون أن
يرغمه على ذلك واجب أشد إلحاحا فانه يستحق اللوم الأخلاقي على ذلك التقصير،
لا على سببه ولا على أخطائه الشخصية التي تكون قد أدت إليه من بعيد! لذلك
يدان بذنب اجتماعي من يجعل نفسه بسلوكه الشخصي البحت عاجزا عن القيام بواجب
معين يترتب عليه تجاه الجمهور. لا يجوز معاقبة شخص على مجرد سكره، ولكن
الجندي أو الشرطي يجب ان يعاقب على سكره أثناء وظيفته. وبالاختصار كلما وقع
الضرر، خرجت القضية من نطاق الحرية ودخلت ضمن نطاق الأخلاق أو القانون.

اما الضرر الطارئ الذي يمكن أن يسببه شخص للمجتمع من جراء سلوك ليس فيه
إخلال بالواجب نحو الجمهور، وليس فيه قصد إلحاق الأذى بشخص معين من الناس،
فانه يليق بالمجتمع ان يتحمله من أجل خير الحرية البشرية الأعم. إن كان لا
بد من معاقبة البالغين على عدم اعتنائهم بأنفسهم، فاني افضل ان يكون ذلك
لأجلهم على ان يكون بحجة منعهم من إضاعة نشاطهم أو من تأدية خدمة للمجتمع
لا يدعي المجتمع أي حق في فرضها. بيد أنى لا أوافق على مناقشة هذه النقطة،
كأن المجتمع لا وسيلة لديه في رفع الصفات من أعضائه إلى المستوى العادي من
السلوك المعقول سوى الانتظار حتى يأتوا أمرا غير معقول فيعاقبهم عليه
قانونيا أو أخلاقيا. لقد كان للمجتمع عليهم سلطة مطلقة خلال عمرهم المبكر،
كان عهد الطفولة والحداثة تحت تصرفه ليحاول جعلهم ذوي سلوك معقول. ان الجيل
الحالي هو سيد التدريب وسيد كل الظروف التي تحيط بالجيل القادم، فإذا لم
يستطع إبلاغهم حد الكمال في الحكمة والصلاح فلأنه هو ذاته ناقص في الحكمة
والصلاح. وليست أقصى جهوده مع الأفراد دائما أنجحها، ولكنه قادر على أن
يرفع الجيل الناشئ جملة إلى درجة الصلاح التي وصل إليها هو، أو إلى ما هو
أعلى منها. فان سمح المجتمع لعدد وافر من أعضائه بأن يظلوا أطفالا في
عقليّتهم، فليس له إلا أن يلوم نفسه على العواقب.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.univ-batna2.alafdal.net
MAZOUZ MOHAMED
...::|رئيس المنتدى|::...
...::|رئيس المنتدى|::...
MAZOUZ MOHAMED


مساهماتي : 5235
تاريخ الميلادي: : 01/07/1991
تاريخ التسجيل : 22/07/2009
عمـــري: : 32
الموقع : www.univ-batna2.alafdal.net

بحوث ودراسات سياسية Empty
مُساهمةموضوع: رد: بحوث ودراسات سياسية   بحوث ودراسات سياسية Icon_minitimeالإثنين 21 فبراير - 16:05

ان المجتمع مسلح بقوى التربية من جهة، وهو من جهة أخرى مسلح بالتفوق الذي
تفرضه سلطة الرأي العام المسَلّم به على أصحاب العقول القاصرة الذين ليسوا
أهلا لتقرير أمورهم. ثم هو من جهة ثالثة يتلقى المساعدة من العقوبات
الطبيعية التي لا يمكن إلا أن تصيب أولئك الناس الذين يستحقون كل امتعاض
وازدراء من كل من يعرفهم. فهل يحق للمجتمع بعد هذا أن يدعي أنه بحاجة إلى
سلطة لإصدار الأوامر وفرض الطاعة في شؤون الأفراد الشخصية، تلك الشؤون التي
تقضي جميع مبادئ العدل ان يكون أمرها بيد من يتحملون تبعاتها. ان علينا ان
نعترف أن لا شيء يؤذي أفضل الوسائل المستعملة في التأثير على السلوك مثل
اللجوء إلى ما هو أسوأ منها. وإن كان في الأشخاص الذين يراد إرغامهم على
سلوك سبيل التعقل والاعتدال شيء من عناصر الأخلاق القوية المستقلة، فانهم
سيثورون حتما على ذلك النير. لن يقبل أحد منهم بحق الغير في السيطرة على
شؤونه الخاصة، وسرعان ما يعتبر كل منهم أن من الشجاعة الوقوف في وجه تلك
السلطة المغتصبة والتباهي بالقيام بعكس ما تأمر به، كما حدث إبّان عهد
تشارلز الثاني للتعصب الأخلاقي الذي ظهر عند جماعة المتطهرين (puritans).
أما بشأن ما يقال عن حماية المجتمع من سوء قدوة المستهترين، فالحق يقال ان
القدوة السيئة ذات أثر ضار، لا سيما إذا بقي المذنب نحو الغير دون أن
يعاقب. ولكننا نتحدث الآن عن السلوك الذي يفترض فيه أنه كبير الضرر على
صاحبه، دون أن يكون ضارا بالغير. على أني لا أفهم هنا كيف لا يفطن الذين
يعتقدون بهذا القول ان القدوة على العموم يجب أن يكون نفعها أكثر من ضررها،
لأنها تستعرض الآفة وتستعرض معها أيضا نتائجها المؤلمة أو المحزنة التي
تلازمها في جميع الحالات أو في معظمها إذا نال سوء السلوك ما يستحقه من
التوبيخ!

إن أقوى حجة ضد تدخل المجتمع في شؤون الفرد الخاصة هي أن تدخُّله غالبا ما
يكون خاطئا وفي غير محله. ان رأي العموم، أي الأكثرية السائدة، في مسائل
الأخلاق الاجتماعية والواجب نحو الغير، كثيرا ما يكون خاطئا، رغما عن أنه
كثيرا ما يظهر مصيبا، لان المطلوب منه إذ ذاك ان يحكم في مصالح الأكثرية،
وفي الطريقة التي يمكن أن يؤثر عليهم فيها نوع من السلوك قد يسمح بممارسته.
أما فرض رأي الأكثرية كقانون على الأقلية في شؤون السلوك الخاص، فانه قد
يكون خاطئا بقدر ما يكون صائبا، لان الرأي العام في مثل هذه الحالات لا
يعدو كونه رأي بعض الناس في ما هو خير أو شر للغير، بينما هو كثيرا لا يعني
حتى هذا، فتهمله العامة ولا تبالي بإرادة أصحابه ورضاهم ولا تهتم إلا بما
تفضله. هناك كثيرون يعتبرون السلوك الذي لا يحبونه ضررا لهم يجرح مشاعرهم،
كذلك المتعصب الذي اتهم بالاستهانة بمشاعر الغير الدينية، فأجاب بأنهم
يستهينون بمشاعره بالمواظبة على عبادتهم أو عقيدتهم اللعينة. ولكن لا يوجد
شبه بين شعور شخص نحو رأيه الخاص وشعور شخص آخر يكّدره تمسك الأول برأيه،
أكثر مما يوجد بين رغبة لص في أخذ محفظة نقود ورغبة صاحب المحفظة في
الاحتفاظ بها. وذوق الفرد هو من شؤون الفرد الخاصة، تماما كرأيه وكمحفظته.

من السهل على أي إنسان أن يتخيل مجتمعا مثاليا لا يتدخل في حرية الأفراد
واختيارهم في الأمور التي يجب فيها الاختيار، ولا يطلب منهم إلا أن يجتنبوا
أنواع السلوك التي استنكرتها الخبرة العامة. ولكن أين تجد المجتمع الذي
وضع لرقابته مثل هذا الحد؟ أو متى يهتم الجمهور بالخبرة العامة؟ انه في
تدخله في السلوك الشخصي قلّما يفكر في شيء غير فظاعة العمل أو الشعور الذي
يخالفه، وهذا القياس في الحكم يعرضه مُقُنَّعا بغلالة رقيقة تسعة أعشار
رجال الأخلاق والكتاب والمفكرين على الشعب على انه رأي الدين والفلسفة.
إنهم يعلموننا أن الأمور صحيحة لأنها صحيحة، أو لأننا نشعر بأنها كذلك،
ويطالبون منا أن نبحث في عقولنا وقلوبنا عن قوانين السلوك الملزمة لنا
وللآخرين. فهل يستطيع الجمهور المسكين إلا أن يطبق هذه التعليمات ويجعل
مشاعره الخاصة في الخير والشر واجبا لازما على جميع البشر، ان أمكنه
الإجماع عليها؟

إن الشر المشار إليه هنا لا يوجد نظريا فقط. وإذا كان من المنتظر مني أن
أعين الحالات التي يضفي فيها الجمهور في هذا العصر وهذه البلاد على ما
يفضله صبغة القانون الأخلاقي، فأنا اكتب مقالا في شذوذ الشعور الأخلاقي
الحاضر، وهذا في نظري أخطر من أن يُبحث على الهامش أو بإيراد الأمثلة. بيد
أنه لا بد من الأمثلة لأبين أن المبدأ الذي أقول به ذو شأن خطير وعملي،
وأني لا أحاول إقامة حاجز دون الشرور الوهمية. وليس من العسير أن أبين
بالأمثلة العديدة أن توسيع حدود ما يمكن ان يسمى بالبوليس الأخلاقي توسيعا
يصل إلى حد الاعتداء على أعمق حرية شرعية للفرد إنما هو من أعم النزعات
البشرية.

لننظر أولا في تنافر الناس القائم على أن من يخالفونهم في العقيدة الدينية
لا يقبلون طقوسهم وشعائرهم ولا ينتهون بنواهها. لنوضح ذلك بمثال. لا شيء في
الدين المسيحي أدعى إلى نفور المسلمين من أكل لحم الخنزير، وليس لدى
المسيحيين والأوروبيين أي شيء ينظرون إليه باشمئزاز حقيقي كما ينظر
المسلمون إلى هذا الأسلوب من إشباع الجوع. انه أولا مخالفة لدينهم، ولكن
هذا وحده لا يوضح مدى اشمئزازهم ونوعه. فالخمر أيضا محرمة لديهم، والمسلمون
يعتبرون تعاطيها إثما. ولكنهم لا يشمئزون منها. ان كراهيتهم للحم "الحيوان
النجس" هي من ذلك النوع الخاص الذي يشبه النفور الغريزي الذي تثيره دائما
فكرة النجاسة إذا غاصت إلى صميم المشاعر، حتى في مَن لا يراعون النظافة في
عاداتهم الشخصية، والتي يكون من أبرز أمثلتها ذلك الشعورالشديد بالنجاسة
الدينية عند الهنود. لنفرض ان الأكثرية المسلمة في شعب ما أصرت على تحريم
أكل لحم الخنزير ضمن حدود البلاد، فهل يكون في هذا ممارسة شرعية لسلطة
الرأي العام الأخلاقية؟ فان لم تكن كذلك، فلم لا؟ ان تلك العادة مثيرة حقا
للشعب الذي يعتقد مخلصا أنها محرمة يمقتها الله. ولكن لا يمكن التنديد
بالتحريم كاضطهاد ديني، فقد يكون دينيا في أصله، إلا أنه لن يكون اضطهادا
للدين ما دام لا يوجد دين يوجب أكل لحم الخنزير. والحجة الدامغة الوحيدة
التي يقوم عليها استنكار ذلك التحريم إنما هي أنه لا يحق للجمهور أن يتدخل
في أذواق الفرد وشؤونه الخاصة. إليك مثل آخر أقرب إلينا: يعتقد معظم
الأسبان أن من الكفر بالله أن يُعبد على غير الطريقة الكاثوليكية، فلا
تعتبر أية عبادة أخرى شرعية في الأراضي الأسبانية. ثم إن شعوب جنوبي أوروبا
ينظرون إلى زواج رجال الكنيسة كشيء غير عفيف، وغير لائق وفظيع، وبغيض،
بالإضافة إلى كونه خروجا على الدين. ماذا يقول البروتستنت في هذه المشاعر
المخلصة وفي محاولة فرضها على غير الكاثوليك؟ لو برر البشر في تدخلهم في
حريات بعضهم بعضا في شؤون لا تمس مصالح الغير، فعلى أي مبدأ يمكن استثناء
هذه الأمثلة؟ أو من يسعه أن يلوم الناس على رغبتهم في قمع ما يرونه معيبا
في أعين الله والناس؟ لا حجة لتحريم ما يعتبر رذيلة أقوى من تلك التي
يتذرع بها من يرون في الأمثلة التي أوردناها رذائل تستوجب القمع. وإلا إذا
شئنا أن نأخذ بمنطق الطغاة وأن نقول إن لنا أن نضطهد الغير لأننا على حق،
وإنهم لا يجوز لهم أن يضطهدونا لأنهم على باطل، فلنحذر التسليم بمبدأ نعتبر
تطبيقه على أنفسنا منتهى الإجحاف والظلم.

قد يعترض بعضهم على الأمثلة الآنفة الذكر بقوله إنها مأخوذة من حوادث
يستحيل وقوعها في بلادنا، إذ لا يحتمل ان يفرض الرأي العام عندنا الامتناع
عن أكل بعض اللحوم أو التدخل في شؤون العبادة أو الزواج أو عدمه. بيد أن
المثال التالي مأخوذ من تدخل في الحرية لم ننج بعد تماما من خطره. لقد حاول
المتطهرون أن يقضوا على جميع أنواع اللهو أو التسلية العامة والخاصة، لا
سيما الموسيقى والرقص والألعاب العامة والملاهي والمسارح، ونجحوا إلى حد
كبير في تلك الأماكن التي قويت فيها شوكتهم، مثل بريطانيا ونيوانغلند إبان
عهد الكومنولث. ولا تزال بيننا جماعات كبيرة لها من الآراء الأخلاقية
والدينية ما يستنكر أسباب اللهو تلك. ولما كان معظم أولئك الناس من الطبقة
الوسطى، وهي السلطة المتفوقة في الظرف الاجتماعي والسياسي الحالي، فليس من
المستبعد أن يفوزوا يوما بأكثرية مقاعد المجلس النيابي. فماذا تقول بقية
أعضاء المجتمع في إخضاع ما يسمح لها به من أسباب اللهو لآراء أولئك
المتزمتين الدينية والأخلاقية؟ أفلا ترغب حتما في إلزام أولئك الأتقياء
المتطفلين حدهم؟ وهذا هو ما يجب أن يقال لكل حكومة وكل مجتمع يدعيان أن لا
حق لامرئ في أية متعة يعتبر أنها خاطئة. ولكن إذا سلمنا بمبدأ الادعاء، فلا
يستطيع أحد أن يعترض على العمل به باسم الأغلبية أو السلطة الراجحة في
البلاد. وعلى الجميع أن يستعدوا للإذعان لفكرة كومنولث مسيحي كما فهمه
مستوطنو نيوانغلند الأولون، فيما لو نجح تدين مماثل لتدينهم في استرداد ما
فقده من نفوذ.

لنتخيل احتمالا آخر قد يكون أقرب إلى التحقيق مما سبق. في العالم الحديث
اتجاه نحو كيان ديمقراطي للمجتمع، مصحوب بمؤسسات سياسية شعبية. ويقال عن
الولايات المتحدة، وهي اكثر البلدان ديمقراطية حكومة وشعبا، أن شعور
الأغلبية يعمل كقانون فعال في تنظيم إنفاق الأموال، وأن من الصعب على صاحب
الدخل الكبير، في عدد كبير من أنحاء ذلك الاتحاد، أن يجد وسيلة لإنفاق دخله
الكبير لا يتعرض فيها لسخط الجمهور. ان في هذا القول مبالغة للواقع دون
شك، غير أن ما يصفه من أوضاع شيء ممكن وقابل للتصور، لا بل هو نتيجة مرجّحة
لشعور ديمقراطي مقرون بفكرة أن للشعب حق النقض بشأن الطريقة التي ينفق
فيها الأفراد أموالهم. وما علينا بعد ذلك إلا أن نفرض انتشار الآراء
الاشتراكية وتغلغلها حتى قد يصبح من العيب في أعين الأكثرية ان يقتني المرء
إلا اقل قدر من الأملاك، أو أن يكسب أي دخل إلا بالعمل اليدوي. ولقد انتشر
ما يشبه هذه الآراء بين أفراد الطبقة العاملة، وأزعج ذلك بقية أعضاء
الطبقة الذين يتأثرون برأيها. ومن المعروف أن العمال غير الحاذقين الذين
يؤلفون الأكثرية في معظم الصناعات يرون أن العامل الخائب يجب أن ينال أجرا
مساويا للعامل الحاذق، وأنه لا يجوز لأحد أن يكسب بحذاقته اكثر مما يكسب
الآخر بدونها. وهم يستخدمون بوليسا معنويا يتحول أحيانا إلى بوليس فعلي
ليحول دون إعطاء العمال الحاذقين أجرا أعلى على خدمات أحسن وأنفع. فان
اعترفنا بأن للجمهور سلطة على الأعمال الخاصة، فأنا لا أرى أن أولئك العمال
على خطأ، ولا أرى أن يلام جمهور ما، كجمهور العمال، إذا ادعى لنفسه سلطة
على سلوك أفراده تماثل السلطة التي يدعيها الجمهور على الناس عموما.

لا حاجة إلى أخذ حالات نفترضها افتراضا. ففي أيامنا هذه أمثلة كثيرة على
اغتصاب حرية الحياة الخاصة، وعدد كبير منها ينذر بنجاح أوفر. لا بل إن هناك
آراء تدعو إلى تخويل الجمهور حقا لا حد له في تحريم ما يراه خطأ بواسطة
القانون، وفي تحريم عدد من الأمور يعترف بأنها بريئة بذاتها، إلا أنها
طريقة في الوصول إلى ما يراه خطأ.

لقد حرم القانون، بحجة مكافحة إدمان المسكرات، شعب إحدى المستعمرات
البريطانية ونصف سكان الولايات المتحدة من استعمال المشروبات المخمرة، إلا
لأغراض طبية. لم يكن تحريم بيعها إلى بغية تحريم استعمالها كما هو المقصود.
ومع أن عدم إمكان تنفيذ القانون قد أدى إلى إلغائه في عدة ولايات بما فيها
الولاية التي يحمل اسمها ، فانه قد بدئ بحملة حماسية للعمل على سن تشريع
مماثل في هذه البلاد. إن الجمعية التي تسمى نفسها "الاتحاد"، والتي أُسست
لهذه الغاية، قد اكتسبت بعض الشهرة السيئة من جراء نشر مراسلات جرت بين
أمين سرها وبين إحدى الشخصيات الإنكليزية القليلة القائلة بأن آراء الرجل
السياسي يجب أن تقوم على المبادئ. وكان المأمول من نصيب اللورد ستانلي من
هذه المراسلات أن يعزز الأمل الذي علقه عليه من أدركوا ندرة صفاته بين
الشخصيات اللامعة في دنيا السياسة. إن داعية الجمعية هذا، الذي "يستنكر أي
اعتراف بأي مبدأ يغتصب اغتصابا كي يبرر التعصب والاضطهاد"، يأخذ على عاتقه
بيان "الحاجز العريض المنيع" الذي يفصل بين تلك المبادئ وبين مبادئ
الجمعية. فيقول: "إن كل ما يتعلق بالفكر والرأي والضمير يبدو لي أنه خارج
نطاق التشريع، وإن كل ما يتعلق بالأفعال الاجتماعية، والعادات، والعلاقات،
يدخل في نطاق سلطة اختيارية موضوعة بِيَد الدولة نفسها لا بِيَد أي فرد من
الأفراد الذين تضمهم". وهو لا يذكر فئة ثالثة تختلف عن السابقتين، مثل
الأفعال والعادات التي ليست اجتماعية بل فردية، مع أن شرب المشروبات
المخمرة إنما هو فعل من أفعال هذه الفئة.

إن بيع المشروبات المخمرة تجارة، والتجارة عمل اجتماعي. على أن الإجحاف
المشكو منه ليس مشكلة حرية البائع بل هو حرية المشتري والمستهلك، فالدولة
إنما تمنع الشرب بمنع البيع. إلا أن أمين السر يقول: "إني كمواطن أدعي أن
لي الحق في التشريع كلما اعتدى على حقوق الاجتماعية فعل اجتماعي من قبل شخص
آخر". وهو يعّرف هذه "الحقوق الاجتماعية" بقوله: "إن كان ثمة ما يغزو
حقوقي الاجتماعية، فلا شك في أن تجارة المشروبات القوية تفعل ذلك. إنها
تفسد علي حقي في الأمن، بإثارة الفوضى الاجتماعية. إنها تغزو حقي في
المساواة باجتناء ربح يأتي عنه خَلقُ شقاء يفرض علي إعالته بالضرائب. إنها
تعرقل حقي في حرية التطور الأخلاقي والعقلي، بإحاطة سبيلي بالأخطار،
وبإفساد المجتمع الذي من حقي أن أطلب منه العون المتبادل". إن هذه النظرية
في الحقوق الاجتماعية لم يسبق قط، على الأرجح، أن أعرب عن مثلها بلغة
صريحة. فهي لا تعدو ما يلي: ان من الحق الاجتماعي المطلق لكل فرد ان يفعل
كل فرد آخر كما يجب، وإن كل من يقصر في ذلك أقل تقصير يعتدي على حقي
الاجتماعي ويخولني حق الطلب من السلطة التشريعية ان تزيل الظلم. إن مبدأ
فظيعا كهذا لأشد خطرا من أي تدخل مفرد في الحرية، وما من اعتداء على الحرية
إلا ويتمكن من تبريره. وهو لا يعترف بأي حق في الحرية، وربما استثنينا هنا
حق الاحتفاظ بالآراء سرا دون البوح بها، إذ حالما يخرج رأي أراه أنا ضارا
من فم أحد، فانه يغزو جميع "الحقوق الاجتماعية" التي يخولني إياها ذلك
"الاتحاد". فهو مذهب يجعل لكل واحد من أفراد النوع الإنساني مصلحة في
الكيان الأخلاقي، والفكري، والجسمي للآخرين، وكل واحد يستطيع أن يفسر هذه
المصلحة طبق مقاييسه.

إليك مثلا هاما آخر على التدخل غير الشرعي في حرية الفرد الشرعية وهو
التشريع الخاص بيوم العطلة أو الراحة. لا شك في أن الاستراحة في أحد أيام
الأسبوع من عناء بالأعمال، بقدر ما تسمح به مقتضيات الحياة، عادة مفيدة
جدا، ولو أنها غير إلزامية دينيا إلا عند اليهود. وبما أن من غير الممكن
مراعاة هذا التقليد إلا بموافقة عامة من قبل الطبقات الصناعية والعمالية،
وبما أن اشتغال بعض الناس يفرض ضرورة انتقال البعض الآخر، فقد يكون من
الجائز والحق أن يضمن القانون لكل واحد مراعاة الآخرين لذلك التقليد وذلك
بتعليق أعمال الصناعات الكبرى في يوم معين. ولكن هذا التبرير القائم على
اهتمام الغير المباشر بمراعاة كل فرد للتقليد، لا ينطبق على الأعمال التي
يختار المرء أن يلهو بها في أوقات فراغه، ولا يجيز أبدا فرض قيود قانونية
على أسباب اللهو. صحيح أن لهو بعض الناس يعني يوم عمل بالنسبة لغيرهم، إلا
ان متعة الكثيرين تستحق عناء القليلين بشرط أن يكون لهؤلاء القليلين الحرية
في اختيار العمل أو التخلي عنه. ان العمال على حق في ظنهم أن الاشتغال يوم
الأحد يجعل عمل سبعة أيام مكافأ عليه بأجر ستة أيام. ولكن ما دامت أكثر
الأعمال معلقة في ذلك اليوم، فان القليلين الذين يجب أن يعملوا ليؤمنوا
للغير المتعة التي يريدها يحصلون على زيادة نسبية في كسبهم، ثم إنهم غير
مجبرين على العمل إن كانوا يفضلون الفراغ والراحة على الربح. ويمكن كذلك
معالجة قضية هؤلاء الأشخاص بفرض عطلة لهم في يوم آخر من أيام الأسبوع.

لم تبق إذن حجة للدفاع عن تقييد أسباب اللهو يوم الأحد، إلا القول بان
الدين لا يجيزها، وهذا اجتهاد في التشريع لا يمكن ان نفيه حقه من الاحتجاج
والاستنكار. بقي ان نثبت ان المجتمع أو أيا من موظفيه لا يملك تفويضا من
الأعلى للأخذ بالثأر لأي جرم مزعوم بحق الخالق لا يكون في نفس الوقت جرما
بحق بني جنسنا. ان الفكرة القائلة بان من واجب كل شخص أن يكون الآخر متدينا
كانت أساس جميع ما اقترف من الاضطهادات الدينية، ولو سلمنا بتلك الفكرة
لبررنا تلك الاضطهادات. ومع ان الشعور الذي يتبدى في المحاولات المتكررة
لمنع السفر بالقطار يوم الأحد، وفي مقاومة فتح المتاحف وغير ذلك، ليس فيه
ضراوة المضطهدين القدامى، فان الحالة العقلية التي ينم عليها هي في أساسها.
انها التصميم على عدم التسامح مع الآخرين في عمل أمر يسمح لهم به دينهم
لسبب واحد فقط وهو أن دين المتسلطين لا يسمح به. إنها الاعتقاد أن الله
يمقت أعمال الكفار فحسب، بل إنه أيضا لا يبرئ ساحتنا ان تركناهم وشأنهم.

لا يسعني في هذا الصدد أن أغفل ذكر لغة الاضطهاد الذميم التي تصدر عن صحافة
هذه البلاد كلما شعرت بأنها مدعوة لملاحظة ظاهرة المورمون الغريبة التي
تدعي قيام وحي جديد ودين جديد يقوم عليه. يمكن أن يقال الكثير عن هذه
البدعة: حصيلة التدجيل المحسوس، التي لا تسندها أية صفات خارقة لمؤسسها،
والتي يؤمن بها مئات الألوف، حتى أصبحت أساسا لجمعية في عصر الصحف والسكك
الحديدية والتلغراف الكهربائي. ولك ما يعنينا هنا هو أن لهذه الديانة كما
لغيرها شهداء، وأن نبيها ومؤسسها قبل بيد الدهماء بسبب تعاليمه، وأنه فتك
بغيره من الأتباع بنفس العنف غير الشرعي، وأن المورمون طردوا بمجموعهم من
البلاد التي نشأوا فيها. وبينما هم الآن مبعدون في ركن منعزل في قلب
الصحراء، يصرح الكثيرون علنا في هذه البلاد بأن من الحق (لولا أنه من غير
المناسب) إرسال حملة عليهم لإرغامهم قسرا على الإذعان لرأي غيرهم من الناس.
إن المادة في المذهب المورموني التي تستفز النقمة وعدم التسامح الديني هي
إباحتهم تعدد الزوجات. وهذا التعدد محلل للمسلمين والهنود والصينيين، ولكن
يبدو أنه يثير عداء لا يخمد حين يمارسه أناس يتكلمون بالإنكليزية ويدعون
أنهم نوع من المسيحيين. ما من أحد اشد تبرما مني بهذه الطائفة، لأسباب أخرى
ولأنها إجحاف صارخ بمبادئ الحرية، فانها مجرد أحكام السلاسل التي تقيد نصف
المجتمع وتحرر النصف الآخر منها. ولكن يجب أن لا ننسى أن تعدد الزوجات هذا
إنما يتم بمحض إرادة النساء اللواتي يمكن اعتبارهن الطرف المَغبون. ومهما
بدا هذا الأمر مستغربا، فان له تفسيرا في آراء البشر وعاداتهم العامة. ولما
كانت هذه الآراء والعادات تلقن المرأة الاعتقاد بان الزواج هو الشيء
الوحيد الذي لا بد منه، فمن الواضح أن هناك كثيرات تفضل الواحدة منهن أن
تكون ضرة لعدد من الزوجات على أن لا تتزوج أبدا. لا يطلب من البلدان الأخرى
الاعتراف بمثل هذا الزواج، أو إعفاء بعض سكانها من قوانينها الخاصة إكراما
لخاطر المورمون وآرائهم. ولكن بعد أن أذعن المنشقون لمشاعر الغير المعادية
إلى أبعد مما يقتضيه العدل، وهجروا المواطن التي لم ترض عن تعاليمهم،
واستقروا في بقعة نائية من الأرض التي كانوا أول من جعلها صالحة لسكنى بني
آدم؛ يتعذر أيجاد مبدأ غير مبدأ الطغيان يقوم عليه منعهم من العيش هناك وفق
ما يريدون من القوانين، بشرط أن لا يعتدوا على غيرهم وأن يسمحوا بان
يهجرهم من لا يرضى بطرق معيشتهم. لقد اقترح أحد الكّتاب أن تراسل على حد
قوله "لا حملة صليبية، بل حملة تحضيرية" لوضع حد لما يبدو له أنه خطوة
رجعية في الحضارة. وهي تبدو لي كذلك، ولكني لا أرى أن لأي مجتمع الحق في أن
يجبر مجتمعا آخر على التحضر. وما دام الراضخون للقانون السيئ لا يطلبون
العون من مجتمع آخر، لا أرى ما يوجب تدخل من لا علاقة له بالأمر لوضع حد
لحالة يبدو أن من تهمهم مباشرة راضون عنها، بحجة انها فضيحة أو سبة لأناس
يبعدون عنها آلاف الأميال ولا شأن لهم بها. ليرسلوا إن شاؤا مبشرين يبشرون
ضدها، وليقاوموا بوسائل عادلة (ليس منها كَمّ أفواه المعلمين) تقدم مذاهب
مماثلة بين ظهرانيهم. إذا كانت الحضارة قد تغلبت على البربرية يوم كانت
البربرية سيدة الكون، فكيف يتسنى لنا ان ندعي الخوف من أن تنتعش البربرية
بعد اندحارها وتنتصر على الحضارة؟ إن حضارة تستسلم هكذا لعدو مقهور، يجب أن
تكون قد أصبحت منحطة بحيث يعجز كهانها وأساتذتها وسواهم عن الدفاع عنها أو
لا يكلفون أنفسهم مؤونة ذلك. وإن كان الأمر كذلك، فخير لها أن تزول سريعا،
وخير البّر عاجله، إذ ليس لها إلا أن تتردى من سيء إلى أسوأ، إلى ان تفنى
وتنبعث ثانية (كالإمبراطورية الغربية) على أيدي برابرة نشيطين حازمين

المصدر : مركز ابداع المعلم

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.univ-batna2.alafdal.net
 
بحوث ودراسات سياسية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» مصطلحات سياسية
» مذكرات سياسية
» نكتة سياسية
» مصطلحات لا يستغني عنها أي طالب علوم سياسية
» * * * * * * * سلسلة تمارين بحوث العمليات

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات جامعة باتنة 2 :: كلية الحقوق :: قسم العلوم السياسية-
انتقل الى: