يفرض علينا السياق الذي نُورد فيه الحديثَ عن ضرورات الاِجتهاد ومقتضيات مراعاته لاِحتياجات الحياة المعاصرة، أن نحدّد المعنى المقصود من (الاجتهاد المعاصر) :
ــ هل هو الاجتهاد الذي يساير العصر ؟، أم هو الاِجتهاد الذي يفهم روح العصر ويقدر ضروراته حقّ قدرها ؟.
ــ هل هو الاِجتهاد الذي يخضع لهذه الضرورات وذلك بتحريك النصّ الثابت على الواقع المتغيّر لمجرد أنه واقع متغيّر ؟.
ــ إنزالُ حكمِ النصّ على الواقع في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية وبمقتضاها ؟.
إنَّ الحق الذي لا مراء فيه، أن العصر، كل عصر، لا يجوز لنا أن نسايره مطلقَ المسايرة ونواكبه محضَ المواكبة، فكلُّ عصر من العصور، فيه الصلاحُ وفيه الفساد، فيه ما يقبل وفيه ما يرفض، والمقياس هنا هو الحكم الشرعي القائم على صحيح الدين المستمَدِّ أساساً من القرآن والسنة الصحيحة. ولذلك فليس القصد في أن يكون الاجتهاد معاصراً، أن نعمل على إخضاع الاجتهاد لعصرنا، ونبذل الوسع في تكييف اجتهادنا مع عصرنا. فليس هذا من ديننا في شيء، وإنما نريد بالاجتهاد المعاصر، أن يعبّر عن مصالح الجماعة الإسلامية، وأن يراعي هذه المصالحَ مراعاةً دقيقةً، فلا يخرج عنها، وأن يلبِّيَ احتياجات الناس بما يفي بالقصد، بحيث يمهد لهم السبيل إلى الحياة السوّية والمستقرة والعيش الكريم.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي : »إنه ينبغي أن نحذر من الوقوع تحت ضغط الواقع القائم في مجتمعاتنا المعاصرة، وهو واقعٌ لم يصنعه الإسلام بعقيدته وشريعته وأخلاقه، ولم يصنعه المسلمون بإرادتهم وعقولهم وأيديهم، إنما هو واقعٌ صُنِعَ لهم، وفُرض عليهم، في زمن غفلةٍ وضعفٍ وتفككٍ منهم، وزمن قوةٍ ويقظةٍ وتمكّنٍ من عدوّهم المستعمر، فلم يملكوا أيامَها أن يغيّروه أو يتخلصوا منه، ثم ورثه الأبناء من الآباء والأحفاد من الأجداد، وبقي الأمر كما كان. فليس معنى الاجتهاد أن نحاول تبرير هذا الواقع على ما به، وجرّ النصوص من تلابيبها لتأييده، وافتعال الفتاوى لإضفاء الشرعية على وجوده«(19).
وليس معنى هذا في رأينا، أن العصر فاسدٌ على الإطلاق، ومن ثم تكون مسايرته باطلة، وإنما الدين والعقل والحكمة، كل ذلك يدعونا إلى إعمال عقولنا في البحث عن المصلحة العامة وتقدير الضرورة المترتبة على هذه المصلحة حق قدرها، حتى نكون على بيّنة من عصرنا، نفقه مشكلاته، ونفهم قضاياه، وندرك ضروراته، ونتعامل معها بسعة أفق، وعميق نظر.
ويترتب على هذا كلِّه، أن يتوفّر لنا فقهٌ اجتهاديٌّ جديدٌ، يكون لنا قاعدةً لفهم مشكلات العصر ومعضلاته، وعلى ضوئه ينبغي أن يعمل الاجتهادُ المعاصرُ عمله في إيجاد الحلول التي لا تتعارض ــ من قريب أو بعيد ــ مع روح أحكام الشريعة الإسلامية، وبما يتفق ومقاصدَ الشريعة الغراء على كمالها.
إنَّ الاجتهاد المتعلق بتطبيق الأحكام الشرعية على وقائعها، عامٌّ لا يخصّ طائفةً من طوائف الأمة دون غيرها، ولا يمكن أن ينقطع ما دام أصلُ التكليف موجوداً. وهذا الضربُ هو المسمَّى بتحقيق المناط، أي تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع، بمعنى إقامة الدليل على ثبوتها في الفرع، وهي من باب تطبيق الكليّ على جزئياته(20).
وإذا كان الاِجتهاد، في عبارة جامعة، هو العلم الذي وضعه الإسلام ليُشرك به المجتهدين الأكفاء في التشريع وفي تفسير الخطاب الإلهي، وهو ما يجعل الشريعةَ الإسلاميةَ قابلةً للتطور والدوران مع المصلحة العامة والخاصة في جميع العصور، وفي جميع الجهات(21)، فإن الاِجتهاد المعاصر، أو الاجتهاد الذي يواكب متغيّرات العصر، هو العلم الذي يحقق المصالح العامة للأمة، ويحفظ عليها توازنها وثباتها وتشبثها بمبادئ الشريعة الإسلامية وأحكامها، ويمنعها من التّيه والضياع والتخبط، ويدرأ عنها السقوط في حمأة الهزيمة التشريعية بالانصياع مع القوانين الوضعية التي غالباً ما تكون جائرة، فضلاً عن تعارضها مع مقاصد الشرع الحنيف في حالات كثيرة.
والاجتهاد المعاصر، لا يكون اجتهاداً حقيقياً مجدياً ونافعاً ومؤثراً في حياة المجتمع الإسلامي، إلاَّ إذا جرى في دائرة المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، وانبعث من الإيمان بصلاحية هذه الشريعة لكل زمان ومكان، فإذا لم يصدر الاِجتهاد عن هذه الدوافع، ولم يستند إلى هذه القواعد، كان أبعد ما يكون عن روح الإسلام، وفقد بالتالي شرعيتَه بالكلية.