عاشت السيدة فاطمة الزهراء (ع) آفاقا واسعة ورحبة في العلاقة مع
الله عز وجل والارتباط الروحي به والانفتاح الكامل عليه وعلى عباده
والتحسس بآلامهم والسعي في سبيل إرشادهم وهدايتهم بما لم يحدثنا
التاريخ عنه بالشكل التام ولم تتحدث هي عن شيء من هذه الآفاق والمآثر..
لأن ما يعيشه الإنسان الرسالي من روحانية وصفاء في علاقته مع الله
عز وجل لا يستطيع البوح به لأحد من الناس لا سيما أن بعض المعاني تحس
ولا تعرف.. تدرك ولا تحدد.. ولكنها في الحقيقة تدرك بالوجدان والمشاعر
والعواطف.. ولا يمكن التعبير عنها بالقلم والبنان ولهذا فإن ما بلغنا
عن العظماء والقادة الرسالييين من مزايا وفضائل قد لا يمثل إطلاقا
تطلعاتهم وآفاقهم وواقعهم.. لأنهم لا يملكون الكلمات التي تعبر عن كل
ما يجيش في نفوسهم أو لأنهم لا يريدون البوح بهذه المشاعر لتبقى لله
وفي سبيله.
إن خلاصة حياة هذه الإنسانية العظيمة أنها لم تعش لنفسها طرفة عين
أبدا.. وإنما عاشت لأجل الرسالة لأجل أبيها رسول الله (ص) ولأجل زوجها
أمير المؤمنين (ع) ولأجل ولديها الإمامين الحسنين (ع) اللذين قال فيهما
رسول الله (ص): " الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا " ولم تعش لهم
قرابة فقط ولكنها عاشت لهم رسالة فقد أفنت حياتها في خدمتهم.. لأنها
رأت في ذلك خدمة للإسلام المحمدي الطاهر.. لقد تحملت السيدة فاطمة
الزهراء (ع) مسؤولياتها كاملة وتمكنت في إعداد أولادها إعدادا إسلاميا
نموذجيا وتعليمهم معنى الجهاد في سبيل الله (سلما) كان الجهاد كما في
قضية ابنها الإمام الحسن (ع) أو (حربا) كما في قضية ابنها الآخر الإمام
الحسين (ع).
إن سر السيدة فاطمة الزهراء (ع) كما هو سر الإمام علي (ع) يكمن في
كل هذا الفيض الروحي والعطاء المعنوي الذي أعطته لأبنائها حتى صاروا
يمثلون الكواكب المضيئة في الواقع الإسلامي كله رغم المعاناة التي
عاشوها كما عاشها من قبل أمهم وأبوهم وجدهم.. تلك المعاناة التي لم تكن
معاناة شخصية وذاتية بل كانت معاناة في خط الرسالة وهذا ما جعلهم
أبناءها (ع) يتقبلونها بكل رحابة صدر كما عبر الإمام الحسين (ع) عن ذلك
بقوله: " هون ما نزل بي أنه بعين الله " وعبر عنها زينب (ع) بقولها: "
اللهم تقبل منا هذا القربان " وقولها للطاغية ابن زياد: " والله ما
رأيت إلا جميلا " وكيف لا يكونون كذلك وقد شاهدوا أباهم وأمهم من قبل
يظلمان ويعانيان ويتألمان من أجل الرسالة ومع ذلك يقول أبوهم الإمام
علي (ع): " لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا علي
خاصة ".
فالقضية عند أهل البيت (ع) هي رضا الله عز وجل.. وأن تسلم أمور
المسلمين ولو تحملوا كل الظلم والجور والمعاناة وقدموا أنفسهم شهداء
وقرابين لله الواحد الأحد.
ولقد أعدت السيدة فاطمة الزهراء (ع) أيضا ابنتها زينب (ع) إعدادا
رساليا وربتها على القيم والفضائل الإسلامية ومن هنا رأينا أن دور زينب
(ع) كان شبيها بدور أمها جهادا من أجل قضية الحق وأن موقفها كان كموقف
أمها في صلابته وقوته في الله عز وجل وأن تحديها كان كتحدي أمها في
مواجهة الظالمين ولهذا فإن موقف زينب (ع) كما موقف أمها من قبل يمثل
الشرعية لحركة المرأة المسلمة ومشاركتها في العمل الجهادي والسياسي
بالطريقة الإسلامية بأن تقف المرأة في وجه الانحرافات أو الانهيارات
التي تحدث في الأمة لتتحدث بوعي مسؤول ولتقف موقفا مسؤولا كما وقفت
زينب (ع) على خطى أمها الزهراء (ع) خطيبة صادعة بالحق في قوة منطقها
وحجتها وصلبة في مواجهة التحديات والصعاب وشجاعة في كل المبادئ وكل ذلك
كان بفضل البذور التي زرعتها السيدة فاطمة (ع) في عقلها وروحها وقلبها
وكل حياتها..
هكذا كانت شخصيتها (العظيمة) تجسد الرسالة بحق وحقيقة فشجاعتها
ومواقفها لم تكن انفعالية وعفوية وغير مدروسة بل كانت شجاعتها ومواقفها
رسالية وحكيمة في تصرفاتها وكل حركاتها وسكناتها لله تعالى وفي سبيله.
وأما اهتمامها الرسالي بالناس كان أيضا جزءا من رسالتها وهنا تكمن
قيمة الزهراء (ع) لأن قيمتها ومنزلتها الرفيعة ليست في نسبها وإن كان
شريفا ولا في عشيرتها أو غير ذلك مما يتفاضل به الناس ويتباهون به بل
قيمتها في القيم الإسلامية التي تجسدت فيها وحملتها ونادت بها.. ومن
أجل تلك القيم وأرفعها أن يعيش الإنسان للآخرين قبل أن يعيش لنفسه أن
يحمل هموم الآخر ويحب له ما يحبه لنفسه ويكره له ما يكره لها وهذا ما
جسدته سيدتنا الزهراء (ع) خير تجسيد بل إنها كانت في المستوى الأعلى من
ذلك حيث إنها لم تكن تقاسم الآخرين ما عندها من نعم أنعم بها الله
عليها بل كانت تؤثر الآخرين على نفسها رغم ما بها من خصاصة وحاجة
ماسة.. كانت ورغم أنها الأحوج للدعاء بأن يخفف الله عنها آلا مها
ومعاناتها تستغل فرصة (صلاة الليل) لتقوم لعبادة ربها والابتهال إليه
والصلاة له في جو عابق بالروحانية والطلب منه أن يقضي حوائج المؤمنين
ويغفر ذنوبهم ويرفع درجتهم ويحقق أحلامهم ويشفي مرضاهم وتسميهم
بأسمائهم فردا فردا.. ويسمعها ابنها الإمام الحسن (ع) فيسألها: "
أماه.. لم لا تدعين لنفسك؟ فتجيبه: يا بني الجار ثم الدار " أي علينا
أن نفكر بالآخرين قبل أن نفكر بأنفسنا ونتحسس آلامهم قبل أن نتحسس
آلامنا.. فنعمل على أن نخفف آلامهم ونحقق أحلامهم وبعد ذلك ندعو أن
يعطينا الله تعالى مثل ما أعطاهم هذا ما تريده لنا فاطمة الزهراء (ع)
لعل الله تعالى بذلك يرحمنا عندما يرانا نعيش هذه الروحية الرسالية
التي كان أهل البيت (ع) يعيشونها حتى نزل القرآن الكريم ليخلد فيهم هذه
الميزة التي امتازوا بها عمن سواهم فقال عز من قائل: {ويطعمون الطعام
على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم
جزاء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يرما عبوسا قمطريرا * فوقاهم الله
شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا} سورة الإنسان الآية (8-11). ويقول
رسول الله (ص): " الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله
". بحار الأنوار (ج 5 باب 15 ص 314 رواية 5).