مضى أسامة بن لادن إلى ربّه وترك عن نفسه صورتين متناقضتين تماماً،
فهو في نظر الغرب والأنظمة المواليّة له في البلاد العربيّة
والإسلاميّة رأس الإرهاب والعدوّ الأوّل للمدنيّة والسلم العالمي، أمّا
في نظر بعض الشباب المسلم المتحمّس والحركات الجهاديّة فهو نموذج
المجاهد الربانيّ والشهيد السعيد، ولا نظنّ أنّ أحد الطرفين سيغيّر
رأيه فيه اليوم ولا غداً طالما أنّ كلّ واحد منهما يُصدر عن رؤية
نمطيّة جامدة للوجود والحضارة والصراع ودوافعه وأساليبه، لا مجال فيها
لحوار ولا قواسم مشتركة ولا إمكانيّة للالتقاء على أيّ مستوى كان،
فأمريكا – ومعها الغرب – تتساءل بصدق أو بمكر: " لماذا يكرهنا العرب
والمسلمون؟ "، وهؤلاء يتساءلون بحق: " لماذا يعادينا الغرب – وعلى رأسه
أمريكا – ويظلمنا ويحتلّ أراضينا ويعتدي على رموزنا الدينيّة
والحضاريّة ويضايقنا سياسيّاً واقتصاديّاً وإعلاميّاً وثقافيّاً؟ ".
لقد انخرط بن لادن في الصراع مع غرمائه انطلاقاً من هذه التساؤلات
واختار – لنصرة رؤيته – أدوات العداء السافر والتخندُق الكامل مع
أفكاره وأتباعه، ولم يترك فرصةً ولا ثغرةً لتبادل فكريّ لا مع الغرب
ولا مع الأنظمة في الدول العربيّة والإسلاميّة ولا حتّى مع الأطراف
الإسلامية التي تنشط في العمل الدعويّ والسياسيّ، فضلاً عن المكوّنات
الوطنيّة والقوميّة، وأصرّ على قيادة معركة حامية الوطيس تستهدف "
أعداء الإسلام "، لكن الجميع يعلم أنّ الأغلبيّة الساحقة من ضحايا هذه
المعركة الدموية مسلمون، أمّا الأقليّة المتبقية فأغلبها من مدنيّين لا
علاقة لهم بالصراع الدائر بل هم ضحايا تواجدوا في المكان غير المناسب
في الوقت غير المناسب، فقضوا نحبهم من غير أن يعرفوا سبب قتلهم، وإنّما
حدث هذا لأنّ زعيم " القاعدة " قاد معركته المسلّحة بخلفية إيديولوجيّة
عَقَدية ليس فيها سوى مفردات الإيمان والكفر، والحقّ والباطل، فلم يبق
مكان بين اللون الأبيض واللون الأسود، والراجح أنّ هذه الحرب ستستمرّ –
مع الأسف – وتمتدّ طولاً وعرضاً وعمقاً، إن لم يكن بإرادة خلفاء بن
لادن فبإيعاز من أعدائه لتبلغ أهداف العولمة مداها كما تخطّط لها
الاستراتيجيّة الأمريكيّة بدعم من أوروبا أو رغماً عنها.
هذه مقدّمة ضروريّة لأصل إلى السؤال الجوهريّ الصارخ: ماذا لو سلك
بن لادن طرقاً أخرى لخدمة الإسلام ونصرة المسلمين ومحاربة الغرب؟ هذا
سؤال مشروع لا أدري هل طرحه الرجل على نفسه قبل وفاته وهو يرى أنّه
أشعل حرباً لم يستفد منها الإسلام شيئاً، امتدّ شررُها إلى بلاد
إسلاميّة شتّى، ولم تُصب الغربَ سوى في أطراف مدنيّة تحرّم الشريعة
إيذاءها، فزاد ذلك من تحامل الناس علينا، وذكّى استهدافَهم لأوطاننا
ومصالحنا الماديّة والأدبيّة.
كان بن لادن من كبار الأثرياء، فماذا لو عمد – بدل شراء الأسلحة –
إلى إنشاء جرائد عالميّة تصدر بالإنجليزية وغيرها من اللغات في الغرب،
وفتح لها مكاتب في أمريكا وأوروبا، واستكتب الصحفيّين المقتدرين
والعلماء الراسخين واستعان – كما تفعل كبريات الصحف الدوليّة – بخبراء
الإعلام والنفس والاجتماع والعلاقات العامّة، لوضع وتنفيذ خطّة طويلة
الأمد تستهدف تصحيح مفاهيم الغربيين عن الإسلام، وتُحسن عرض حقائق
الإسلام وحقوق المسلمين المهضومة، وتكشف بصيغ علميّة وتعبويّة
ازدواجيّة معايير الحكومات الغربيّة في تعاملها مع قضايانا، وتركّز
تركيزاً خاصّاً على قضيّة فلسطين وظروف تقسيمها والإجحاف الّذي أصاب
أهلها والعدوان الصهيونيّ المستمرّ على الضفّة والقطاع، وتهويد القدس،...
لو فعل بن لادن هذا وصبر عليه سنوات عدّة لقطف ثماراً أغلى و أثمن
وأيسر ممّا يفعله السلاح في معركة غير متكافئة تماماً، فكيف لو توجّه –
بالإضافة إلى ذلك – إلى فتح فضائيات لنفس الغرض وبنفس المواصفات (وبالتالي
هي شيء آخر غير هذه القنوات المسمّاة إسلاميّة الّتي تعتبر في غاية
التخلّف - مظهراً ومخبراً- بالمقاييس الإعلاميّة الصارمة) وجعل منها
ساحةً للحوار العميق والصريح مع الخصوم؟ ولْنقل نفس الشيء عن إنشاء دور
لنشر الكتب بلغات العالم توصل وجهة نظر العرب والمسلمين وتعرّف بهم
مباشرة وبدينهم وتاريخهم ومطالبهم، وكذلك مركز أبحاث متخصّص للغاية
ذاتها ينافس المراكز والمعاهد العالمية التي توجّه ساسة الغرب وباحثيه
وصنّاع القرار والرأي العامّ في ربوعه، ويمتدّ نفوذها مباشرة او بطرق
خفيّة إلى الدوائر الحاكمة والمؤثّرة في دولنا من المحيط إلى المحيط،
فتصنع لنا السياسات والقناعات الفكرية والأذواق وأنماط العيش المختلفة
حتّى تتجذّر فينا القابلية لاتّباع الغرب والتخلّي التدريجي عن
شخصيّتنا وهوّيتنا وتميّزنا الحضاري ؟
هكذا كان يمكن أن تُستثمر أموالُ الرجل الغيور على دينه وأمّته في
تجنيد حَمَلة الأقلام أكثر من حَمَلة السلاح، وينشر الحياة بدل الموت،
لكن للأسف كان يعتمد على معادلة تسطيحيّة تفضّل الموت – لأنّه قضيّة
طلقة واحدة وبعدها يكون الانتقال إلى الآخرة – على حياة تشترط عملاً
دؤوباً مضنيّاً يستغرق الليل والنهار ويحشد العواطف والأفكار والأقلام
والألسن، قد يُفني فيه الفرد عمره من غير أن يرى ثمراته بنفسه، لكنّ
ذريّته تقطفه من غير شكّ.
لم يفهم بن لادن أنّ الغرب هزمنا إعلاميّاً وفكريّاً ونفسيّاً قبل
احتلال فلسطين وأفغانستان والعراق، وذلك عندما تمكّن من إقناع الرأي
العام العالمي بأنّنا مُبطلون ظالمون، ولم يسمع هذا الرأي العام وجهة
نظرنا بوضوح وجلاء لأنّ أكثر الّذين يدافعون عن قضايانا غير مؤتمَنين
عليها – سواء السياسيون أو الإعلاميون أو حتّى بعض علماء الدين –
لأنّهم يعانون من الانهزام النفسي إن لم يكونوا عملاء للغرب بشكل أو
بآخر، وبالتالي تبقى معركة كسب الرأي العام العالمي قائمةً وملحّة
ومستعجلةً، وهي معركة حتميّة كما يفهم كلّ ذي لبّ لأنّها كفيلة بتحريك
موازين القوى بيننا وبين الصهاينة والأصوليّة المتصهينة وتحويلها في
المدى البعيد لصالحنا، ثمّ هي معركة لا تتوافق مع مقولة " السيف أصدق
أنباء من الكتب " لأنّ سيوفنا الخشبيّة لم تعد مناسبةً لعصر نتصدّر فيه
قائمة التخلّف على جميع المستويات، فالأحرى بنا أن نستأنف الحياة
بالقراءة والكتابة، والله تعالى قد أقسم بالقلم ولم يقسم بالبندقيّة
رغم أنّه أشار إلى استعمالها الظرفيّ لتعود على المسلمين بالنصر لا
بالوبال، لكنّ أسامة بن لادن تخرّج من مدرسة عاجزة عن امتلاك النظرة
الشموليّة المكتملة للمشهد بكلّ أبعاده ومن كلّ زواياه، تصارع بعناد
وعناء شديد الصخرة العظيمة الّتي يمكن زحزحتها بالحفر حولها، وتفضّل
الضربة العاجلة – مهما كانت نتائجها – على الجلوس الطويل للدرس
والتحصيل من أجل إحاطة واسعة ومردود نوعيّ كبير، وهنا نعود إلى استثمار
أموال بن لادن، فقد كان أجدى أن يفتح مدارس رفيعة المستوى تنقذ النجباء
والمتفوّقين من الرداءة الصارخة الّتي عليها المدرسة الرسميّة في
البلاد العربيّة، لتخرج جيلاً يجمع بين السموّ الروحيّ والتفوّق
العلميّ، ويمتلك ناصية الّذكاء الّذي نستطيع به إرباك خصومنا وتحقيق
أهدافنا في عصر الانترنت والفيس بوك واليوتيوب، وها هي الثورات
العربيّة تؤكّد صدق هذا الكلام.
اختار بن لادن – مع الأسف – أن يشتريّ السلاح ويجنّد الشباب الغيور
على دينه وحرماته لاستعماله على غير بصيرة في أكثر الأحيان، ووجد تربة
مناسبةً أعدّها الغرب المعتدي علينا والأنظمة البوليسيّة المتحكّمة
فينا لنتقبّل طروحات الدم والثأر، ولا نقيم وزناً للعلم والمعرفة،
وعندما غاب العلم والمعرفة اختلّت المقاييس وخلا الميدان من الاحتكام
إلى الشرع والعقل معاً، وارتفعت أسهم السلاح رغم أنّ الدنيا كلّها تدرك
أنّ هذا السلاح أنهكنا نحن وعاد علينا بالوبال ولم يضرّ أعداءنا إلاّ
قليلاً.
واختار بن لادن – ولا أقصد الرجل وحده وإنّما ما يمثّله – موقف
العداء التامّ للآخر، فهو يصوّر المسلمين - الذين يتحدّث باسمهم من غير
تفويض منهم - مُبغضين لجميع اليهود ولو كانوا مناهضين للصهيونية،
كارهين لجميع النصارى ولو كانوا أفرادا مسالمين وشعوبا مسالمة،
متبرّمين من كلّ من ليس مسلما حتّى ولو كان مناصرا لقضايانا منافحا
عنها، أي أنّ المسلمين لا يقبلون العيش إلاّ وحدهم على الكرة الأرضية
!!!فإن لم يكن ذلك فهُم لا يتواصلون مع الناس إلاّ بالسلاح، وكنت
أتمنّى أن ينفق بن لادن ثروته في نشر ثقافة الرحمة التي ابتُعث بها
الرسول (ص)، وطبّقها في حياته مع مشركي مكّة ويهود المدينة ونصارى
نجران وغيرهم، فهو لم يقاتل أحدا بسبب دينه، وإنّما حمل السلاح –
مرغَما – في وجه المعتدين، كيف لا وقد أُمر أن يقول للناس " لكم دينكم
ولي دين " !!
ولو طبع الرجل الكتب المناسبة ووزّع المجلاّت والمطبوعات الاسلامية
المعتدلة وأذاع دروس وخطب الدعاة الوسطيين والعلماء الراسخين لقدّم
للإسلام أجلّ الخدمات ولنفع المسلمين في دينهم ودنياهم،لأنّ ثقافة
الرحمة كفيلة باستمالة القلوب وطمأنة النفوس وتقريب المسافات بيننا
وبين غيرنا، ليعلموا أنّنا دعاة خير وطلاّب حقّ، ندافع عن مصالحنا بكلّ
أشكالها ونعترف للغرب بمصالحه، ونرفض أن يعتدي علينا وأن يناصر أعداءنا،
فهذا أجدى من التهييج باسم القرآن والسنّة وإعلان التعبئة العامّة
والحرب الشاملة ضدّ القاصي والداني بسبب وبغير سبب، وحتّى من غير
امتلاك الوسائل المناسبة لتلك الحرب.
أمّا لو تفطّن بن لادن لسلاح السينما – مثلا – لكسب المعركة بأيسر
السبل، ففيلم " الرسالة "المشهور خدم به المرحوم مصطفى العقّاد الاسلام
أكثر من حَمَلة السلاح بل وأفضل من كثير من الخطباء والوعّاظ، وما أكثر
بركة مال يُوظّف في الدراما والشريط السينمائي ونحو ذلك ممّا يستهوي
قطاعات لا تُحصى من الناس – والغربيّين بالدرجة الأولى – يمكن من خلال
هذا العمل الفنّي تبديد المخاوف وعرض القضايا وكسب الودّ ونشر الدعوة
وتأليف القلوب والامتداد الأفقي في بلاد كثيرة، وهو أقلّ تكلفة من
السلاح الناري من غير شكّ، وأنفع للمسلمين من تفجير الطائرات والقطارات
بركّابها الأبرياء ومن إطلاق التهديدات والتوعّد بالويل والثبور في
مشهد مأسوي يضاعف أعداد مناوئي العرب المسلمين مجانا ويؤخّر مشروعنا
التحرّري وإقلاعنا التنموي أحقابا أخرى، لكنّ العقبة تكمن في التديّن
العاطفي الذي يقود أنصار المدرسة السلفية المغالية ويكاد يُلغي بصيرتهم
بالكامل، فلا يلتفتون إلى ذكاء ولا اجتهاد جديد ولا أساليب حديثة أثبتت
فعاليتها، تحقّق الأهداف بأقلّ الخسائر، وما زلت أذكر بكلّ أسف ما
شهدته شوارع الجزائر العاصمة في 1991 من مسيرات مليونية واعتصامات ضخمة
ترفع شعار " لتسقط الديمقراطية " وتدعو إلى الجهاد ضدّ النظام القائم،
وكانت البلاد تنعم آنذاك بحرية لا يحلم بمثلها أيّ بلد عربي !!! وأصرّ
القوم على مطالبهم حتّى سقطت التجربة الديمقراطية وامتلأت المعتقلات
وتحوّلت الجزائر إلى سجن حُشر فيه الشعب كلّه بسبب هؤلاء المتديّنين !
وكان في الحالة الجزائرية عبَر بليغة للإسلاميّين والحكّام والشعوب
العربية ليعمد الجميع إلى مقاربات أخرى تجنّبهم المزيد من الانحرافات
والخسائر، وكان يمكن لأصحاب نظرية المغالبة أن يغتنموا فرصة الانفتاح
الديمقراطي في الجزائر ليعملوا بهدوء وصدق من أجل بناء نموذج للحكم
الراشد والمجتمع المزدهر والمستقرّ في ظل العمل السلمي البعيد تماما عن
العنف – وقد زالت دوافع هذا العنف ودواعيه آنذاك عن كلّ الأطراف وشاعت
الحريات العامّة وارتفعت أسهم المشاركة السياسية الواسعة ولم تبق عقبات
أمام العمل السلمي أيّا كان مشربه -، لكن أعود فأقول إن هذا المنهج
يحتاج إلى النَفَس الطويل الذي لا توفّره إلا المعرفة الراسخة بسنن
التغيير، وهذا عين ما يفتقده بن لادن وأتباعه ولا يؤمنون به أصلا.
كم أتمنّى ان يفقه دعاة الجهاد المطلق أن نيّاتهم الصادقة لا تبرّر
ما جرّوه على الأمّة من ويلات، وأنّ في الساحة متّسعا ليجرّبوا المنهج
التربوي الدعوي الواعي البصير ليدركوا أنّه أجدى لخدمة قضايانا الدينية
والدنيوية معا.
بقي أن أقول إنّه كان بإمكان بن لادن أن يأخذ بالخيارات الآنفة
الذكر للإطاحة بالأنظمة الاستبدادية في البلاد العربية وإتاحة الفرصة
لإقامة أنظمة الحرية والعدل والشورى.