قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة الثالثة
تلك إذاً قسمة " صحيحة "
دكتور عثمان قدري مكانسي
دخلت حسناء البيت مسرعة ، فوجدت أمها ترتب الطعام على المائدة ، فبعد قليل
يأتي والدها من العمل متعباً ، فيأكل ثم يصلي ليرتاح قليلاً قبل زيارة
الجدة ، فشرعت في مساعدة أمها ، وأخبرتها أن معلمتها ذكرت لها قصة الحلاّبة
وابنتها، فأعجبت بالبنت ونزاهتها وحسن إيمانها ، ورغبت أن تكون مثلها في
التزامها آداب هذا الدين العظيم والتمسّك بأهدابه .... ولم تنتظر أن تطلب
أمها أن تقص عليها قصتها ، فبدأت تقول :
إن الفاروق عمر رضي الله عنه خليفة المسلمين انطلق وخادمُه يعُسّ طرقات
المدينة ، ويتفقد أمور المسلمين ، فسمع امرأة تقول لابنتها : يا بنيّة
امزقي ( اخلطي وامزجي )اللبن بالماء – كي يكثر فيزداد الربح- فقالت البنت
لأمها : أم تعلمي أن أمير المؤمنين حذرنا من الغش، ومنع مزج الحليب بالماء
؟! قالت لها أمها : وأين منا أمير المؤمنين ؟ ... ردت البنت قائلة : إن كان
أمير المؤمنين لا يرانا فربه سبحانه يرانا !...
أُعجب الفاروق بدين الفتاة وكريم خُلُقها ، وأمر صاحبه أن يضع علامة على البيت ، وقال له : ايتني بخبر أهل الدار ...
وفي الصباح قال خادمه : إنها امرأة تبيع الحليب وابنتها . فسأل الخليفة
ابنه عاصماً : هل لك في زوجة صالحة ؟ قال : نعم . فزوجه منها . فكانت هذه
الزوجة الصالحةُ جدةََ الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز.
فرحت الأم بابنتها ، وقبّلتها ، وقالت: إنّ السُّحت يا ابنتي لا بركة فيه ،
ويُردي صاحبه في النار ، والحلال يرفع شأن صاحبه في الدنيا ، ويهديه إلى
الجنة .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى لأصحابه قصة مشابهة لما رويتِ ،
سأقصها عليك الآن ونحن نرتب الطعام على المائدة قبل أن يصل والدك .
تعلمين يا حسناء أن الخمر لم يكن محرّماً في أول الإسلام ، ثم بدأت الدائرة
تضيق على تناوله حتى حرّمه الله تعالى في قوله سبحانه " يا أيها الذين
آمنوا ، إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ،
فاجتنبوه لعلكم تفلحون ، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء
في الخمر والميسر ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ؟ "
قالوا : انتهينا ، يا رب ، انتهينا .
ولعله كان في الأمم السابقة غير محرّم كذلك .
فقد انطلق رجل بسفينته في النهر ، يقف على هذه القرية وتلك القرية ، وهذا
الحي وذاك ، يبيع الخمر للناس . وكان غشّاشاً ، يخلط الخمر بالماء ليزداد
بيعه ، فيزداد ربحه . وكثير من الناس في أيامنا هذه يفعل مثله ظنّاً منهم –
وهذا قلة في الدين ، وضعف في اليقين – أنهم يسرعون في الثراء ، فيَشـُوبون
الجيد بالرديء ، او يمزجون المتقاربين في النوع ليجنوا المال الكثير
بالطرق غير المشروعة ، فيخسرونه وأضعافه بطرق لا يشعرون بها ، فقد تكون
المرضَ ، أو السرقةَ أو الضياعَ أو الإسرافَ أو النكدَ في الحياة الذي يطغى
على كثرة المال ، فيفقدُ الإنسانُ الراحة وطعم السعادة .. وهذا كلُّه لا
يساوي شيئاً أمام عذاب الله تعالى وغضبه ... فما نبت من سحت فالنار أولى به
.
باع الرجل " الخمر المائيّ" ، ووضع الدنانير في كيسه ، وانطلق بسفينته
عائداً إلى بيته ، والسعادة تملأ نفسه ، والأمل في جمع ثروة كبيرة يراوده .
وبينما هو في أحلامه ، وقردُه إلى جانبه يقفز هنا وهناك اختطف القردُ
الكيسَ ، وصعِد به إلى سارية السفينة . فانخلع قلب التاجر لمصير الكيس ،
فقد يطيح به القرد في الماء ، فيخسر تجارته وأحلامه الوردية التي خامرَتْه .
وقد يفتحه ، فتتساقط بعض الدنانير في الماء ، ويغيب بعضها في ثنايا
الألواح ....
أيها القرد ؛ أيها القرد؛ بالله عليك انزل . فلما لم ينزل ناداه : ارم الكيس إليّ بهدوء ، ولا تفجعني في مالي ...
لم يفهم القرد توسّلَه ، بل تمكّن من جلسته أعلى السارية ، وحلَّ رباطَ
الكيس ...؛ نظر في داخله ...؛ مدّ يده إلى الدنانير الذهبيّة ، فأخرج
ديناراً ، وقلّبَه بيده كأنه يروزه ( يختبره ويتعرّفه) ثم ألقاه أسفل منه ،
فسقط في السفينة ، فابتدره التاجر ... ورفع رأسه إلى حيث يجلس القرد ...
كان التاجر متوثّباً مشدودَ الأعصاب .. لقد مدّ القرد يدَه إلى الكيس ،
وأخرج ديناراً قلّبه بيده ، فاستعدّ التاجر لتلقّيه .. ليس في الأمر حيلة
سوى ذلك ، لقد ترك دفّة السفينة ليتفرّغ للالتقاط الدنانير .... يا ويح
التاجر ، لقد رمى القرد الدينار في الماء بين الأمواج ، ورمى التاجر رأسه
على عمود السارية من الغيظ والقهر .. وعاد ينظر بتوسّل ظاهر إلى القرد ،
ولكنْ هذه المرة دون أن يناديه ، إذ انعقد لسانه .. فرمى القرد إليه
ديناراً ، فأسرع إلى التقاطه ، ورمى الدينار الرابع إلى الماء ... يا ويحه ،
ما عادت رجلاه تحملانه .. سقط على الأرض ، وعيناه متعلقتان بالقرد وصنيعه
...
ازدادت سرعة يد القرد ، واستمر التوزيع العادل في القسمة .. دينارٌ يٌرمى
على السفينة ، وآخر يُلقى إلى الماء .... وفرغ الكيس ، ونزل القردُ ... أخذ
التاجر نصيبَه من ثمن الخمر ، وأخذ النهر نصيبه من ثمن الماء الممزوج
بالخمر ...
أليست القسمة صحيحة ، والقردُ قاضياً عادلاً ، وحكَماً نزيهاً ؟! !
وقد نال التاجر نصيبه من الحزن والألم في الدنيا . وسينال جزاءَه في الآخرة
ناراً تلَظّى ، لا يصلاها إلا الأشقى .. هذا إذا لم يتق الله تعالى ،
ويتـُب ، ويعفُ الكريمُ عنه.
مسند الإمام أحمد ج2ص306