أثناء جولة إفريقية في أواسط عام 1998 قال وزير
التجارة الأمريكي: "إن إفريقيا تمثل الحدود الأخيرة للمصدرين والمستثمرين
الأمريكيين، وفيها إمكانيات كبيرة وواعدة، وقد سبق أن ترك رجال الأعمال
والمال الأمريكيون الأسواق الإفريقية لزمن طويل لتكون منطقة
نفوذ لمنافسينا من الأوروبيين".وفي زيارتها الأخيرة (في الفترة من 17 إلى
23 أكتوبر 1999) لعدد من الدول الإفريقية قالت وزيرة الخارجية الأمريكية
مادلين أولبرايت: "إن التحالفات الاقتصادية مع دول أخرى ستكون من أولويات
السياسة الخارجية الأمريكية، وإن
التجمعات الاقتصادية الجديدة ستكون هي التحالفات العسكرية للقرن القادم".
إذًا فقد بدأت أنظار القوى الاقتصادية في العالم تتجه نحو الأسواق
الإفريقية، وهذا ليس من منطلق أن هذه الأسواق أصبحت أكثر قدرة على استيعاب
السلع، وليس لأن دخل الأفراد في إفريقيا قد ارتفع بدرجة ملحوظة ليصل إلى
677 دولارًا خلال عام 1998، ولكن لأن الأسواق
العالمية الأخرى ضاقت أمام منتجات هذه القوى الاقتصادية؛ بسبب حدة المنافسة
العالمية، وكذلك بسبب اتباع العديد من دول العالم لأساليب غير مباشرة
لعرقلة دخول السلع الواردة إليها في نفس الوقت الذي ما زالت فيه الأسواق
الإفريقية بكرًا مفتوحة الأبواب.
منافسة رماديةبدأت بعض الدول تغير سياستها تجاه إفريقيا للنفاذ إلى أسواقها والاستحواذ
على نصيب كبير منها. ويأتي في مقدمة القوى المتنافسة في إفريقيا: فرنسا
والولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث يلاحظ أن لكل منهما سياسته الخاصة تجاه
إفريقيا. ويظل الهدف النهائي لهذه القوى
هو زيادة الوجود الاقتصادي التجاري والاستثماري في أسواق إفريقيا؛ وذلك
باستخدام كل الوسائل المتاحة من معونات اقتصادية وفنية ومنح تعليمية،
والتمهيد لذلك من خلال وسائل الاتصال والبرامج الثقافية والإعلامية
والتكنولوجية. وقد تجسد الاهتمام الأمريكي
والفرنسي بالأسواق الإفريقية في زيارتي كل من الرئيس الأمريكي والرئيس
الفرنسي للعديد من الدول الإفريقية خلال عام 1998، والزيارات المتكررة
لوزيرة الخارجية الأمريكية إلى القارة الإفريقية. وإلى جانب فرنسا
والولايات المتحدة هناك أطراف أخرى تشترك في هذا
التنافس؛ سواء من داخل القارة الإفريقية أو من خارجها، فمن الداخل نجد دولة
جنوب إفريقيا تسعى إلى استغلال كل ما لديها من موروث قوي من العلاقات
الاقتصادية والثقافية والسياسية مع دول إفريقيا في زيادة نفوذها في الأسواق
الإفريقية، واستغلال كل ما لديها من
تقدم تكنولوجي واقتصادي، ونجد من الخارج المملكة العربية السعودية التي زاد
وجودها في الأسواق الإفريقية، وخاصة في مجال الاستثمار، وكذلك قيامها بعقد
اتفاق مشاركة مع دولة جنوب إفريقيا لتكون بمثابة جواز مرور لها إلى
الأسواق الإفريقية، وكذلك تحاول دول أخرى
زيادة وجودها في هذه الأسواق، مثل: مصر وباكستان والهند واليابان وإسرائيل؛
وذلك باستخدام وسائل متعددة.
ويمكن القول: إن العديد من الدول أصبح لديه إستراتيجية خاصة للتحرك في
الأسواق الإفريقية، وهذا يلقي مزيدًا من الأعباء على الأطراف الأخرى بسبب
شدة المنافسة في هذه الأسواق، ولذلك من المهم لكل طرف التعرف على سياسات
الدول المنافسة، ودراسة كيف تتحرك، وكيف
ستؤثر على وجوده في الأسواق الإفريقية؟ ويمكن ملاحظة حدة هذا التنافس بوضوح
بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، حيث يسعى كل منهما إلى توسيع
وتعميق علاقته الاقتصادية مع دول القارة الإفريقية، وبمعنى آخر توسيع مناطق
التعاون والمشاركة والتجارة
والاستثمار والمعونات مع هذه الدول، والعمل على تطويق الجهود التي يبذلها
الطرف الثاني في هذا المجال.
فرغم ما يبدو ظاهريًا من وجود تفاهم بين كل من الولايات المتحدة الأمريكية
وفرنسا بشأن السياسة الخارجية لكل منهما تجاه أفريقيا، حيث اتفقتا على أن
يكون هناك تفاهم أمريكي فرنسي حول التنافس المحكوم والمنضبط في أسواق
القارة الإفريقية طبقًا لمبدأ العرض
والطلب في مجال التجارة والاستثمار، وخاصة بعد إقرار منظمة التعاون
الاقتصادي والتنمية في عام 1997 لمبدأ تجريم عمليات رشوة المسئولين الأجانب
عند عقد الصفقات التي تتنافس فيها شركات دولية النشاط.
ورغم هذا إلا أن كلا الدولتين لها سياستها الخاصة تجاه دول إفريقيا، والتي
تسعى إلى محاصرة نشاط الدولة الأخرى، والاستحواذ على النصيب الأكبر من
الأسواق الإفريقية، وهذا يمكن ملاحظته من خلال التعرض بشيء من التفصيل
لسياسة كلا الدولتين وغيرهما من القوى في
إفريقيا للاستحواذ على أسواقها، واستقطاب دولها سياسيًا وثقافيًا.
نحو سوق "أمريكو-إفريقية"تتجسد السياسة الأمريكية تجاه الأسواق الإفريقية فيما قاله وزير التجارة
الأمريكي أثناء زيارته لبعض الدول الإفريقية قبيل زيارة الرئيس الأمريكي
لإفريقيا في منتصف عام 1998، حيث قال
: "إن إفريقيا
تمثل الحدود الأخيرة للمصدرين والمستثمرين
الأمريكيين، وفيها إمكانيات كبيرة وواعدة، ولقد سبق أن ترك رجال الأعمال
والمال الأمريكيون الأسواق الإفريقية لزمن طويل؛ لتكون منطقة نفوذ
لمنافسينا مـــن الأوروبيين"، كما أن وزيرة الخارجية الأمريكية
أعلنت في زيارتها لبعض دول القارة الإفريقية
أن التحالفات الاقتصادية مع دول أخرى ستكون من أولويات السياسة الخارجية
الأمريكية، وأن التجمعات الاقتصادية الجديدة ستكون هي التحالفات العسكرية
بالنسبة للقرن القادم.
وتتمثل الإستراتيجية الأمريكية تجاه الأسواق الإفريقية في الآتي:ـ توسيع قاعدة النفوذ الاقتصادي الأمريكي في القارة الإفريقية.
ـ استقطاب الدول الإفريقية ثقافيًا وسياسيًا وإعلاميًا لخدمة الأغراض الاقتصادية.
ـ العمل على إحداث تغييرات اقتصادية وسياسية في الدول الإفريقية بما يخدم الأهداف الأمريكية.
ويهدف هذا التوجه الأمريكي في النهاية إلى إقامة منطقة تجارة حرة بين
الولايات المتحدة والدول الإفريقية؛ على أن يكون ذلك مع بداية عام 2020،
وأن يدعم ذلك إنشاء بنك لتمويل الصادرات والواردات بين الطرفين وقد جاء ذلك
في "وثيقة تنمية أفريقيا والفرص المتاحة
ونهاية الاعتماد على الغير" التي صدرت في الولايات المتحدة الأمريكية عام
1996.
وتعمل واشنطن على تحقيق إستراتيجيتها من خلال وسائل وتكتيكات أهمها: 1 | - | المبادرة الأمريكية لدعم التجارة والاستثمار مع إفريقيا، وذلك من خلال إقرار لجنة الاعتمادات بمجلس النواب الأمريكي -بالإجماع- تشريعًا يعطي حرية الدخول بدون جمارك للمزيد من منتجات الدول الإفريقية إلى الأسواق الأمريكية، وذلك عام 1998. وفي عام 1999 وافق الرئيس الأمريكي أثناء المؤتمر الأمريكي الإفريقي بواشنطن على إسقاط 70 مليار دولار ديون مستحقة على الدول الإفريقية. ويمكن القول: إن المظلة الأمريكية في الأسواق الإفريقية تبرز في شبكة من الترتيبات والعلاقات بين الولايات المتحدة والدول الإفريقية، وتطلق عليها الولايات المتحدة الأمريكية "المشاركة الأمريكية الإفريقية". والملاحظ أن هذه السياسة الأمريكية تغطي مناطق متنوعة في الأسواق الإفريقية؛ تشمل عددًا من المستويات والقطاعات في مجالات التجارة والاستثمار والمؤسسات المالية والاقتصادية. |
2 | - | تعدد الأبواب والمداخل، فيلاحظ أيضا أن السياسة الأمريكية لا تدخل إلى الأسواق الإفريقية من باب أو مدخل واحد، ولكنها اتخذت نقاط ارتكاز ومراكز انتشار مثل: غانا في الغرب، وأوغندا في الوسط، ودولة جنوب إفريقيا في جنوب القارة. |
3 | - | إنشاء صندوق لتمويل الاستثمارات في إفريقيا من قبل الهيئة الأمريكية للاستثمار الخاصOPIC) ) وهي عبارة عن هيئة تابعة للحكومة الأمريكية تعمل في مجال الاستثمار فيما وراء البحار، وتقوم بالاستثمار في أسهم إستراتيجية بهدف تدعيم المصالح والأعمال الأمريكية، كما تقوم أيضًا بتأمين الاستثمارات ضد المخاطر السياسية وتمويل المشروعات، ويبلغ رأس مال هذا الصندوق 350 مليون دولار، ويتم تدبير ثلثي رأسمال الصندوق عن طريق الحكومة الأمريكية، والباقي عن طريق المؤسسات الاستثمارية، وسوف يقوم الصندوق بتمويل مشروعات الاتصالات والمنافع العامة والنقل والمياه والخدمات الصحية في إفريقيا. ومن المتوقع أن يبدأ هذا الصندوق أعماله في منتصف عام 2000، كما يتوقع للصندوق أن يجتذب حوالي 650 مليون دولار من المستثمرين المحليين. |
4 | - | دعم التجارة مع إفريقيا في عام 2000 بمبلغ مليار دولار، وذلك وفقًا لتصريح رئيس بنك الصادرات والواردات الأمريكي "جيمس هارمون" خلال المؤتمر الذي عقد بمركز "كارتر" في أطلانطا، ولذلك طالبت الولايات المتحدة الأمريكية حوالي 41 دولة إفريقية -في الاجتماع الوزاري الذي عقد في مدينة أطلانطا الأمريكية في عام 1999- بضرورة تحسين أجواء التجارة وأنظمة الشحن، وتنسيق السياسات، وذلك من أجل النمو الاقتصادي، وزيادة الاندماج في الاقتصاد العالمي. |
5 | - | تطويق التحركات الفرنسية والعربية، فمن خلال تحليل التحرك الأمريكي في القارة الإفريقية يلاحظ أنها تحاول تطويق التحركات المنافسة؛ وذلك لتوسيع قاعدة الوجود الأمريكي في الأسواق الإفريقية، وهو ما اتضح بصوره جلية في سعي الولايات المتحدة الأمريكية لعقد مشاركة مع بعض دول المغرب العربي؛ وذلك لتطويق الدور الأوروبي في شمال إفريقيا وخاصة الدور الفرنسي، وكذلك لعرقلة محاولة ليبيا تكوين تجمع إفريقي في هذه المنطقة، كما تدعم الولايات المتحدة كل هذه الجهود أمنيًا من خلال مشاركتها في تدريب ما أطلق عليه قوات حفظ السلام في إفريقيا، ودعمها للمناورات العسكرية التي تتم في هذا الإطار، وخاصة ما عرف بمناورات "جيد يامانا 1998" على الحدود المشتركة لكل من السنغال ومالي وموريتانيا. |
فرنسا .. التاريخ يخدم الاقتصادتعتبر فرنسا أكبر مانح
للمعونات الاقتصادية في إفريقيا، كما تمتلك أكبر استثمارات أجنبية في
القارة السوداء. وتقوم السياسة الفرنسية تجاه الأسواق الإفريقية على أساس
استغلال ما تتميز به فرنسا من رصيد ثقافي ولغوي
-فرانكفوني- في إفريقيا في توسيع نفوذها الاقتصادي في الأسواق الإفريقية.
وتسعى فرنسا في الوقت الراهن إلى اتخاذ مسارات جديدة للتكيف مع الأوضاع
الاقتصادية والسياسية في إفريقيا ونحاول رصد هذه المسارات فيما يلي:
1 | - | الانطلاق خارج الفرانكفونية؛ حيث لم تعد السياسة الفرنسية تجاه الأسواق الإفريقية تكتفي بالتركيز على المناطق التي لها فيها موروث ثقافي ولغوي، ولكنها تمتد إلى دول إفريقية أخرى. |
2 | - | تجنب المواقف المعادية؛ ففرنسا لا تتدخل إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية في اتخاذ مواقف سياسية معادية لبعض الدول الإفريقية مثل: ليبيا والسودان، وذلك حتى لا تضر بمصالحها الاقتصادية في الأسواق الإفريقية. وهذا واضح في عدم مشاركة فرنسا للولايات المتحدة في موقفها من الدول السابق الإشارة إليها أو حتى من الدول التي تتعاطف معها الدول الإفريقية ولو كانت خارج القارة الإفريقية مثل العراق. |
3 | - | الابتعاد عن الصدام المباشر مع واشنطن؛ فباريس تعلن أنها لا تمانع في التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية في الأسواق الإفريقية، ولا تنظر إلى التحركات الأمريكية الأخيرة في الأسواق الإفريقية على أنها ضد المصالح الفرنسية، ولكنها ترحب بدور للسياسة الأمريكية في إفريقيا لأن فرنسا لا تستطيع وحدها تحمل أعباء مساعدة الدول الإفريقية في التنمية الاقتصادية. كما تهدف فرنسا إلى تحقيق مشاركة جديدة ومزيد من التعاون، ووضع حد للتنافس الضار، وذلك من أجل توسيع مناطق الصداقة والمشاركة والتجارة والاستثمار والمعونات. |
4 | - | الاستقطاب؛ إذ أنه من الملاحظ على السياسة الفرنسية تجاه الدول الإفريقية أنها تحاول استقطاب هذه الدول بعيدا عن الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما قامت به وبطريقة ذكية عندما قامت بتنظيم مؤتمر القمة الفرنسية ـ الإفريقية في ديسمبر 1998 كما استضافت العاصمة الفرنسية يوم الثلاثاء 7 ديسمبر الجاري(1999) مؤتمر وزراء خارجية الدول الإفريقية وفرنسا؛ والذي بحث قضايا الأمن والتنمية في الدول الإفريقية، وركز على دعم مسيرة التنمية، وحل النزاعات الحالية في بعض دول القارة. |
5 | - | التركيز على النخب الحاكمة؛ يلاحظ أن السياسة الفرنسية تجاه إفريقيا تعطي أهمية للفئة السياسية والثقافية العليا أو النخب الحاكمة التي ترى أن الأمن والاستقرار مدخل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهي عكس السياسة الأمريكية التي تعطي أولوية للفئة الاقتصادية العليا التي ترى أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية هي المدخل للأمن والاستقرار. |
6 | - | تفكيك محاولات التكامل الإفريقية؛ إن توجهات كل القوى الاقتصادية الغربية المتنافسة في الأسواق الإفريقية، وخاصة فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى إحداث تغييرات في التوجهات الحالية للدول الإفريقية، حيث تهدف هذه القوى إلى إعادة ترتيب عملية التكامل الاقتصادي بين هذه الدول، والتحول نحو إقامة اقتصاد إفريقي بطريقة مختلفة، وذلك عكس ما هو قائم حاليا من وجود تجمعات وكيانات اقتصادية متجاورة سوف تكون أساسًا لبناء الجماعة الاقتصادية الإفريقية. وهذه المحاولات والتوجهات نحو التغيير لأسس وخطط التعاون الاقتصادي الإفريقي تدعو إلى التخوف بشأن مستقبل هذا التعاون وسيره بطريقة سلسة، وذلك لأن كل محاولات التغيير يمكن اعتبارها بمثابة عملية فك وإعادة تركيب لعملية التكامل الاقتصادي في إفريقيا، وكل طرف يعيد التركيب وفقا لمصالحه في إطار هذا التنافس الحاد، وهو ما يهدد مستقبل هذا التعاون الإفريقي. |
ورغم هذا التنافس الأمريكي
الفرنسي على الأسواق الإفريقية فإن كثيرًا من المحللين يرون أن فرنسا ستظل
لها اليد الطولى في الأسواق الإفريقية؛ وذلك بسبب موروثها
الثقافي واللغوي في القارة الإفريقية، وبسبب سيطرتها على منظمة
الفرانكفونية وعلاقاتها مع الطبقات الحاكمة في معظم هذه الدول، ولكن هذا
متوقف على استمرار هذا الدور الفرنسي في المنطقة الفرانكفونية، وعدم نجاح
الولايات المتحدة الأمريكية في استقطاب دولها
سياسيًا وثقافيًا