خلت
القارة الأفريقية بقوة في الاهتمامات الأمريكية في عام 2003، خاصة أنها
شهدت زيارة تاريخية للرئيس الأمريكي جورج بوش إلى 5 دول أفريقية في يوليو
2003. وعمق أيضا من ذلك اهتمام واشنطن هذا العام بحل الأزمة بين الفرقاء في
ليبيريا،
والبحيرات العظمي، والسودان، وساحل العاج، وغيرها من الأزمات بالقارة
الأفريقية؛ وذلك بالمقارنة مع الإهمال الذي شهدته هذه القارة مع تولي بوش
الحكم.
وجاء هذا
الاهتمام الأمريكي المتزايد في عام تم فيه الحديث بكثافة عن إستراتيجية
جديدة ذات بعد "إمبراطوري" لإدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش للعالم بعد
أحداث 11 سبتمبر، قوامها التوسع الخارجي في مناطق العالم
المختلفة على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية؛ لتحقيق الأمن القومي
الأمريكي بمعناه الشامل، وللهيمنة على القوى الصاعدة في النظام الدولي،
وتأمين الاحتياجات الأمريكية من الطاقة.
ورغم أن
إدارة الرئيس الجمهوري بوش غلفت هذه الإستراتيجية بشعار "محاربة الإرهاب"
فإن أحدا من المراقبين لم يكن ليشك لحظة في أن الحربين اللتين خاضتهما
أفغانستان في أكتوبر 2001، والعراق في مارس 2003 قد حققتا للولايات
المتحدة الاقتراب من منطقتين نفطيتين هما: الخليج وبحر قزوين، كما ضمنت
واشنطن قواعد عسكرية لها في هذه المناطق تستطيع من خلالها ضرب أي قوى
معادية لها.
وأدخلت الولايات المتحدة القارة الأفريقية في هذه الإستراتيجية لاعتبارات، منها:
امتلاك القارة السوداء لمعابر تجارية ومواني بحرية هامة على المحيطين
الهندي والأطلسي، بما يجعلها منطقة هامة لتمارس فيها الولايات
المتحدة عمليات توسيع انتشارها العسكري عبر العالم لضرب أي قوة معادية لها.
وكذلك امتلاك القارة الأفريقية لثروة نفطية؛ حيث يقدر مؤتمر الأمم المتحدة
للتجارة والتنمية (الأونكتاد) مجمل الاحتياطي النفطي لأفريقيا بـ80 مليار
برميل؛ أي ما نسبته 8% من الاحتياطي
العالمي الخام.
واستنادا
إلى هذه القدرات النفطية تشير دراسة أجرتها المجموعة الوطنية لتطوير سياسة
الطاقة في واشنطن عام 2002 إلى أن الولايات المتحدة سترفع وارداتها
النفطية في أفريقيا من 16% إلى 25% بحلول 2015. وفي حال سيطرة
الولايات
المتحدة على مخزونات النفط الأفريقي بجانب السيطرة على نفط العراق فسيعني
ذلك تحكمها في الاقتصاد العالمي واقتصاديات الدول المنافسة، خاصة اليابان
وأوربا.
كما
تعتبر القارة الأفريقية سوقا كبيرة تقدر بحوالي 700 مليون نسمة، وتسعى
الولايات المتحدة للاستفادة من هذه الأسواق، خاصة أن تقرير وزارة التجارة
الأمريكية عام 2002 يشير إلى أن تجارة الولايات المتحدة مع أفريقيا تمثل
حوالي
1.8% من إجمالي حجم تجارتها الخارجية. وآخر الاعتبارات أن الاهتمام
الأمريكي بأفريقيا قد يساعد على تحسين صورة الحزب الجمهوري الذي يتزعمه بوش
في أعين الأمريكيين السود في الانتخابات القادمة في عام 2004، الذين عادة
ما يصوتون للحزب الديمقراطي.
تحركات أمريكا في أفريقيا
في إطار هذه الأهمية لأفريقيا تحركت إدارة الرئيس بوش لتطبيق إستراتيجيتها في أفريقيا.
ومن أبرز هذه التحركات في عام 2003 ما يلي:
أولا- تكثيف التواجد العسكري الأمريكي في مناطق أفريقيا المختلفة والتدخل إذا لزم الأمر.
وتبدو في هذا الصدد عدة أمثلة، أبرزها الأزمة الليبيرية التي شهدت تدخلا
أمريكيا عسكريا في أغسطس 2003، بعد ضغوط مارسها الرئيس بوش
على الرئيس الليبيري تشارلز تايلور ليتنحى الأخير عن السلطة؛ ليتم بعد ذلك
إبرام اتفاق سلام بين الحكومة وحركتي التمرد الرئيستين في البلاد، وهما:
الحركة الليبيرية المتحدة من أجل المصالحة والديمقراطية (LURD)، والحركة من
أجل الديمقراطية في ليبيريا (MODEL)؛ لوقف
الصراع الليبيري المستمر منذ 14 عاما.
ورغم أن
التدخل الأمريكي فسره البعض على خلفية الارتباط التاريخي والمعنوي بين
الولايات المتحدة وليبيريا، بحكم أن الأخيرة استوطن فيها العبيد الأمريكيون
المحررون؛ فإن هذا التدخل الأمريكي كان خلفه مصالح أمريكية، تصب في
قلب الإستراتيجية الجديدة في التعامل مع القارة الأفريقية؛ ويتمثل في
بناء واشنطن مطار "روبرتسفيلد" الدولي الذي يستخدم كقاعدة رئيسية لإعادة
تموين الطائرات العسكرية الأمريكية بالوقود في المحيط الأطلنطي؛ كما أن
ليبيريا بها محطة إرسال تابعة
لـ"سي آي إيه" لالتقاط كل ما يبث في القارة، إضافة إلى وجود قاعدة
"أوميجا"، إحدى 6 قواعد بحرية أمريكية هي الكبرى خارج الولايات المتحدة.
هذا إلى جانب وجود مزرعة المطاط اليابانية الأمريكية قرب مطار ليبيريا
الدولي، وهي أكبر مزرعة من نوعها
في العالم، ويقيم بها 75 ألف نسمة. كما كانت ليبيريا محطة أمريكية لدعم
المتمردين في أفريقيا، وعلى سبيل المثال كانت الأسلحة تصل لحركة يونيتا
الأنجولية عبر منروفيا.
وأكد
النية الأمريكية في توسيع وجودها العسكري في منطقة غرب أفريقيا ما ذكره
تقرير نشرته مؤسسة "أكسفورد أنليتيكا" للأبحاث والدراسات في شهر سبتمبر
2003، ذكرت فيه أن كلا من الكاميرون والجابون وغينيا الاستوائية
توصلت بالفعل إلى اتفاقات مع الولايات المتحدة يتم السماح بموجبها
للأمريكيين استخدام مطارات تلك الدول. كما يتم بحث مجموعة من الخيارات بما
فيها استخدام قواعد جوية في نيجيريا وبنين وساحل العاج.
وسبق هذا
التقرير بعدة أشهر تصريحات للجنرال الأمريكي جيمس جونز -أعلى مسئول عسكري
أمريكي في أوربا في شهر أبريل 2003- قال فيها: إن الولايات المتحدة تريد
زيادة تواجدها العسكري في أفريقيا للرد على ما وصفه بـ"التهديدات
الجديدة التي يمثلها تعرض بعض الدول لعدم الاستقرار"؛ لوجود مناطق شاسعة
بدون سلطة تتيح المجال لنشاط تجارة المخدرات وتدريب الإرهابيين، معلنا أن وزارة الدفاع الأمريكية تنوي خلق مراكز إستراتيجية في العالم للتدخل السريع في إطار ما أسماه "تحول
القوات الأمريكية لجعلها أكثر قدرة على التحرك".
ولا شك
أن أهمية وجود قوات أمريكية في الساحل الغربي لأفريقيا يكمن في تأمين خط
أنابيب "تشاد-كاميرون" الذي سيضخ 250 ألف برميل من النفط يومياً في اتجاه
الأطلسي؛ وكذلك خليج غينيا، وهو شريط ساحلي مليء بالنفط بين
أنجولا ونيجيريا؛ حيث يتعدى إنتاج المنطقة النفطي 5.4 ملايين برميل يوميا.
وتأتي
تحركات واشنطن في غرب أفريقيا بعد نجاحها في توطيد وجودها العسكري في القرن
الأفريقي بعد زيارة وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد لكل من إريتريا
وأثيوبيا وجيبوتي في ديسمبر 2002؛ حيث وافقت الدول الأفريقية الثلاث
على السماح للطائرات الأمريكية بالتحليق فوق أراضيها، وكذلك تقديم معلومات
عسكرية، والسماح للبحرية الأمريكية بحرية الحركة لضمان أمن البحر الأحمر من
ناحية القرن الأفريقي.
ثانيا: تحركات تجاه النفط الأفريقي:
حيث وضعت الإدارة الأمريكية هذا النفط نصب أعينها في عام 2003، خاصة أن
الاستثمارات المتوقعة لشركات النفط الأمريكية قد تصل إلى حوالي 10 مليارات
دولار في أفريقيا خلال عام 2003، وفقا
لتقديرات "مجلس التعاون الأمريكي مع أفريقيا" CCA. ومن أبرز تحركاتها العمل
على منع الصراعات في مناطق إنتاج النفط. ووفقا لهذه الرؤية فليس مفاجئا أن صراعات معقدة ظلت عقودا مشتعلة بدا لها "فجأة" حل سياسي في عام 2003؛
مثل التوصل لاتفاق تقاسم
السلطة في الكونغو الديمقراطية (يونيو 2003)، وحل الأزمة الليبيرية (أغسطس
2003)، وكذلك تدعيم مفاوضات السلام في السودان خلال عام 2003؛ والذي بدا من
خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول لكينيا في شهر أكتوبر 2003
لحث لمفاوضين على توقيع اتفاق نهائي قبل بدء عام
2004، وتأييدها لاتفاق السلام في بوروندي (نوفمبر 2003). وكانت الولايات
المتحدة قد استطاعت الضغط على حركة يونيتا في أنجولا لإنهاء الحرب الأهلية
في إبريل 2002 بعد عقود من استمرار هذه الحرب.
من جهة
أخرى تم تكثيف الزيارات السياسية إلى أفريقيا؛ فقد زار الرئيس بوش 5 دول
أفريقية في يوليو 2003 (السنغال - جنوب أفريقيا - بتسوانا - أوغندا -
نيجيريا)؛ وهذه الدول تم اختيارها بعناية لتمثل مناطق أفريقيا، ويكون لها
دور
إقليمي وتعاون عسكري واقتصادي وثيق مع واشنطن.
عوائق مطروحة
لا يمكن
القول بأن الأمر يبدو سهلا بالنسبة للولايات المتحدة؛ فثمة عوائق قد تحول
دون مضي الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في طريقها عام 2004، أبرزها ما يلي:
1- يواجه البعد العسكري في هذه الإستراتيجية تحديات كبيرة:
وربما سقوط عشرات الجنود الأمريكيين قتلى على يد المقاومة العراقية مثّل
درسًا للقوات الأمريكية في التدخل العسكري، ودفعها للتحوط في التعامل مثلا
مع الأزمة
الليبيرية؛ حيث جاء التدخل الأمريكي في منروفيا محدودا وحذرا؛ بل إن الرئيس
بوش نفسه أعلن أنه ستحل قوات دولية محل الأمريكية في ليبيريا بعد انتهاء
مهمتها.
2- يمثل النفوذ الفرنسي في 20 دولة أفريقية تخضع للفرانكوفونية عائقا أمام الولايات المتحدة؛ فباريس ذاتها بدأت في تعديل سياستها التي خسرت بسببها الكثير في أفريقيا؛ حيث ألغت المشروطية السياسية للمعونات، واستبدلت بها
مشروطية المصلحة؛ كما رفعت مساعداتها لأفريقيا إلى ما يزيد عن 0.7% من دخلها القومي بدون ربطها بالديمقراطية.
3- وجود عدم استقرار في أفريقيا يصعب من تطبيق الإستراتيجية الأمريكية؛
فأفريقيا مثقلة بالديون والفقر والمرض، كما أن الصراعات السياسية والعرقية
ما زالت موجودة بدول القارة؛ حتى التي خمد منها يصعب ضمان عدم تفجره. يضاف
إلى ذلك الرأي العام الأفريقي المناهض للولايات المتحدة في عدد من دول
القارة؛ ويكفي الإشارة إلى المظاهرات التي خرجت في كينيا وتنزانيا
والكاميرون لتعبر عن غضبها من الغزو الأمريكي للعراق.
على أي
حال فإن وجود إستراتيجية أمريكية تصاحبها تطبيقات لا يعني ضمان نجاحها بشكل
كامل. ومن كان يصدق أن المشهد الذي دخلت به القوات الأمريكية إلى بغداد
رافعة شعار الانفراد بالكعكة، سيتحول إلى مشهد جديد تشرك فيه الولايات
المتحدة الذين عارضوا الحرب، بعدما وجدت أن الانفراد بالعراق أمر صعب
المنال. إلا أن القارة الأفريقية -ممثلة في منظماتها القارية والإقليمية
وكذلك بعض الدول المحورية مثل مصر وليبيا والسنغال وجنوب أفريقيا ونيجيريا-
مطالبة برؤية موحدة لمواجهة الإستراتيجية
الأمريكية الجديدة؛ بحيث تصبح العلاقات الأمريكية الأفريقية على أساس
التعاون المشترك الذي يستفيد منه الجانبان، بدلا من سياسة التهام الكعكة
دون أن يكون لصاحبها حق فيها.