حـــــــــزب فـــرنــســا 1
مدخــــــــــل إن الوضعية التي تعرفها الجزائر الآن خطيرة جدًا
وعلى جميع الأصعدة، فلم تعرف الجزائر قط مثل هذا العنف منذ استقلالها عام
1962. وتعود أسباب الأزمة السياسية إلى طبيعة النظام نفسه.
لقد أدى غياب الديمقراطية والحريات والشفافية في
تسيير المؤسسات، وغياب فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، زيادة
على المواجهة بين جماعات القوى في دواليب النظام، وهذا خلال العشريات
الأربع الأخيرة، إلى تغذية أزمة الثقة التي قرضت تدريجيا النظام الجزائري
قبل أن تزعزعه زعزعة أدت في الأخير إلى انفجار الوضع السياسي والاجتماعي في
نهاية العشرية 1990.
أخذت الأزمة السياسية وجهًا مأساويا منذ انقلاب
1992، عندما قام بعض الجنرالات «الفارين» من الجيش الفرنسي بمصادرة الحكم.
كان لهذا الاستيلاء على الدولة ومؤسساتها من طرف
مجموعة أقلية تضع نفسها فوق الدستور وقوانين الجمهورية، عواقب وخيمة على
جميع الأصعدة.
فلا الهجوم الإعلامي المتواصل داخليا وخارجيا، ولا
تشويه الوقائع، ولا التصعيد في سياسة التعتيم الإعلامي عن طريق العمل
البسيكولوجي والإشاعات، ولا حجب المشاكل الأساسية من طرف السلطة استطاعت
خنق الحقيقة ولا خداع الشعب خلال هذه المرحلة الطويلة.
فالنظام يقدم الأزمة الجزائرية منذ إلغاء
الانتخابات التشريعية في جانفي 1992 على أنها نتيجة «التهديد الإسلامي»
الذي يضع البلد ومؤسساته في خطر. ويريد النظام إيهام الرأي العام الوطني
والدولي بأن هذا هو الجانب الوحيد الذي يشكل المواجهة بين الجبهة
الإسلامية للإنقاذ والسلطة، ويمثل المعضلة التي لا يمكن حلها إلا بنظرة
أمنية وممارسات بوليسية، لكن هذا الادعاء الساذج بالثنائية القطبية للحياة
السياسية لا يستسيغها أحد في الجزائر. فالواقع السياسي والاجتماعي في
الجزائر أكثر تعقيدًا بكثير من هذا.
لهذا، فإن هناك بعض الحقائق التي يجب التذكير بها
والإشارة إليها حتى نستطيع الإحاطة بصفة صحيحة بالأبعاد الحقيقية للمأساة
الحالية، فضلا عن رهانات الصراع الجاري في الجزائر والذي ستحدد نتيجته
مستقبل البلد.
في الحقيقة، كثيرون هم الذين في الغرب وفي العالم
العربي وفي إفريقيا وفي أوروبا وغيرها، لا يفهمون لماذا تغرق الجزائر في
حرب داخلية شنيعة مدة ثماني سنوات، ولا يفهمون لماذا وصل الجزائريون فيما
بينهم إلى حدّ التقاتل، والتباغض والاحتقار والإقصاء فيما بينهم، بل أن
كثيرًا من المراقبين المتبصرين والخبراء الأجانب المختصين في الشؤون
الجزائرية لم يفهموا شيئا طوال مدة من الزمن.
كانت الجزائر في الماضي، تتباهى بإرثها الذي
أحرزته بفضل مقاومتها للاستعمار الفرنسي، وبفضل حربها الوطنية التحريرية،
وهو إرث أبّده، بعد الاستقلال، دورها الفعال في العالم داخل حركة الدول
غير المنحازة (دعم القضية الفلسطينية والقضية الفيتنامية فضلا عن الحركات
التحررية في إفريقيا، والتنديد بالميز العنصري في إفريقيا الجنوبية
وغيرها...)
أما اليوم، فالجزائر تمزقها الحلقة الجهنمية العنف
مقابل القمع، ومأساة لم يسبق لها نظير. فتصاعد الرعب يتعدى العقل
والمنطق. فكيف وصلت الجزائر إلى هذه الوضعية؟ إن السؤال جد معقد ويقودنا
إلى عدة تساؤلات، يحاول هذا الكتاب الإجابة عليها بالرجوع إلى حرب التحرير
الوطنية مع إلقاء الضوء في نفس الوقت على الفترة التي تلت الاستقلال.
في الواقع، يشكل التداخل المعقد للأسباب الداخلية
والخارجية، البعيدة والقريبة خلفية الأزمة المتعددة الأبعاد التي رمت
بالجزائر في وضعية لا يمكن إخراجها منها في نهاية القرن العشرين.
إن الجزائر بالفعل مستقلة منذ حوالي 38 عامًا،
لكنها كانت مستعمرة فرنسية خلال 132 عامًا. لقد كان احتلال الجزائر، من
1830 حتى 1962، يشبه مسارًا متواصلاً يطبعه الاعتداء العسكري والاستبداد
السياسي والعنف القضائي والقمع الثقافي والاستغلال الاقتصادي الفادح
لفائدة أقلية مرتبطة بسلطة الاحتلال.
لقد ساهــم الجيـــش والشرطـــة والإدارة
والمدرســـة الفرنســية خــلال 132 عامًا في تكــوين نُخَب، مقطوعــة عن
الشعب الجزائري ومرتبطة بسلطة الاحتلال بكل أشكال الامتيازات.
كان اندلاع حرب التحرير في نوفمبر 1954 حاملا
للأمل، وكانت الثورة واعدة، وكان من المفترض أن يدشن الاستقلال عهدًا
جديدًا يضع حدًا للاستبداد وحيث يتحتم على ترقية الإنسان والحريات
والعدالة السماح ببروز قادة وإطارات تنظر إلى المستقبل لإخراج الجزائر من
الجهل والأمراض والفقر بفضل سياسة تنموية واقتصادية واجتماعية لصالح
الشعب.
لكن، وفي عز حرب التحرير وفي الوقت الذي كان يبدو
فيه استقلال الجزائر أمرًا حتميًا، كانت فرنسا تتطلع إلى سياسة تهدف إلى
تأبيد وجودها السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الجزائر.
قامت فرنسا لهذا الغرض بالمناورة على عدة أصعدة
في الوقت نفسه بغية ضمان رقابتها للتطور السياسي والاقتصادي والثقافي
المستقبلي للجزائر بعد الاستقلال، قامت فرنسا لهذا الغرض بتشجيع بروز قوة
ثالثة، تتكون من متعاونين مدنيين وعسكريين موالين لها.
لقد عمدت كذلك إلى تنظيم اختراق جيش التحرير
الوطني من طرف دفعات متتالية من «الفارين» من الجيش الفرنسي في سنوات 1958
و1959 و1961 ليتمكنوا من اكتساب الشرعية الثورية وصفة المجاهدين عندما
تحصل الجزائر على استقلالها، من أجل التحكم على أعلى مستوى في الجيش
الجزائري المستقبلي الذي سيكون مشكلا مدنيا من «القوة المحلية» كما سنرى
في الفصول 1 و2 و3.
إن كتابنا لا يعني كل «الفارين» من الجيش الفرنسي،
بل يعني فئة خاصة من العسكريين الجزائريين الذين عملوا في الجيش الفرنسي
والذين يكونون قد أرسلوا في مهمة لدى جبهة التحرير الوطني في تونس في
دفعات متتالية سنوات 1958 و1959 و1961. لقد بينت لنا، بالفعل، تجربة الحرب
التحريرية أنه كان هناك «فارون» وطنيون ومخلصون، مارسوا مسؤوليات هامة
داخل صفوف جيش التحرير الوطني مثل محمود شريف (الذي أصبح عضوًا في الحكومة
المؤقتة للجمهورية الجزائرية)، أو عبد الرحمان بن سالم (قائد منطقة
العمليات للشمال بالحدود الشرقية بين 1960 و1962) أو عبد الله بلهوشات
(قائد الناحية العسكرية الخامسة ثم الناحية العسكرية الأولى بين 1964 و1978
والقائد العام للقوات المسلحة بين 1987 و1989). كان هناك أيضًا عدد كبير
من «الفارين» الذين التحقوا بجيش التحرير الوطني في الداخل والذي اندمجوا
فيه بصفة كاملة، والذين برهنوا على تفانيهم وتضحياتهم في الميدان والذين
سقط منهم الكثير في ميدان الشرف. وكان هناك، أخيرا، «فارون» وطنيون ونزهاء
مازالوا على قيد الحياة مثل مختار كركب (قائد فيلق بين 1960 و1962) أو عبد
الحميد لطرش (الأمين العام لوزارة الدفاع بين 1971 و1978) أو السعيد آيت
مسعودان (وزير لعدة مرات في عهد بومدين والشاذلي) أو عبد النور بقة (قائد
فيلق بين 1960 و1962 ووزيرًا للشباب والرياضة في عهد الشاذلي)، كل هؤلاء
لا يدخلون ضمن دراستنا.
في الوقت نفسه، ومن بين «الفارين» من الجيش
الفرنسي الذين لم يلتحقوا بصفوف جيش التحرير الوطني أو بالجبال بل بجبهة
التحرير الوطني في تونس، كانت هناك فئة كانت تستطيع العمل تحت الأوامر لكن
كان عددها محدودًا جدًا. كان هؤلاء «الفارون» يريدون دخول الثورة من
الباب الواسع وكسب ثقة قادة الثورة والحصول بذلك على الشرعية اللازمة
للقيام «بمهمتهم» على أكمل وجه. لقد استُعمر هؤلاء في فكرهم، فبقوا
مرتبطين ثقافيًا بفرنسا بعد الاستقلال وكانوا يشكلون (ومازال الأمر قائمًا
بالنسبة للذين هم دائمًا على قيد الحياة) مجموعة ضغط متآزرة على شكل
عصابة.
إن هذه الأقلية النشطة التي يلهب جوانحها طموح
مفرط والتي تتحرك لتحقيق سياسة المسخ الثقافي والحضاري للجزائر هي التي
أصفها في هذا الكتاب. هذه الفئة المحدودة جدًا في العدد هي المقصودة
بتسمية «الفارين» في هذا الكتاب.
وفي الأخير، تمَّ اتخاذ إجراءات من أجل «تسهيل»
الدخول للإدارة أمام عمال وإطارات منفذين جزائريين تكونوا في قالب
استعماري، في إطار الترقية الاجتماعية التي شرع فيها لهذا الغرض منذ 1956.
وتشكل الإدارة الفرنسية التي ورثتها الجزائر المستقلة فخّـًا سينهك للأبد
عاتق المواطنين. لقد سَهَّلَ مجموع هذه العوامل بروز بيروقراطية مافياوية
تتشكل نواتها القوية من «الفارين» من الجيش الفرنسي.
إن هذا الكتاب يراد منه أن يكون شهادة حول
المراحل المتواصلة التي تركت بصماتها على تطور الجزائر بين 1958 و1999.
سأحاول أن أبين كيف استفادت مجموعة «الفارين» من
الجيش الفرنسي، خلال هذه الفترة، من الصراعات التي هزت جبهة وجيش التحرير
الوطني خلال حرب التحرير، ومن الأزمات المختلفة التي عاشتها الجزائر بعد
الاستقلال والتي جرّت معها كل مرة إبعاد مسؤولين وطنيين سياسيين وعسكريين
ليُسْتَبْدَلَ بهم أناسٌ أكثر انقيادًا.
إنه لمن المثير للفضول أن أشير في هذا الصدد إلى
أن الجزائر تمثل، في تاريخ نزع الاستعمار، حالة وحيدة من نوعها. فقد تم
إحراز الاستقلال بفضل الكفاح المسلح والتضحيات الجسام التي بذلها الشعب
الجزائري. لكن القضاء على الاستعمار طُبع في نفس الوقت بانفجار الحركة
الوطنية في 1962 وبالسطو على الثورة وتحويلها من طرف الاستعمار
الجديدولصالحه.
إن هذه الملاحظة المؤلمة لا تقلل في شيء من الدور
الحاسم الذي لعبه مسؤولو الثورة من أجل تحقيق المثل الوطني الأعلى، ألا
وهو استقلال الجزائر بالكفاح المسلح. وسيحفظ التاريخ في كل الأحوال بكون
قادة مثل زيغوت يوسف وكريم بلقاسم ولخضر بن طوبال وعبد الحفيظ بوصوف وعبان
رمضان، وأكتفي بذكر بعض ممن عرفتهم، يعدون، رغم اختلافاتهم وآرائهم
المتعارضة في المجال التاكتيكي من حين إلى آخر، ورغم الحوادث العارضة،
رجالاً عظماء ووطنيين كبـــارًا متفانــين عملــوا كل شـيء بضـراوة وصبـر،
وبمثــابرة ووعـي لتحـريـر الجزائر من نير الاحتلال.
في هذا الوقت، سمحت وضعية الجزائر التي أحرزت
استقلالها في مناخ الأزمة الخطيرة التي تواجه فيها الحكومة المؤقتة
للجمهورية الجزائرية والقيادة العامة للجيش، ببروز «الفارين» من الجيش
الفرنسي في قمة الهيئة العسكرية، لاسيما داخل وزارة الدفاع والدرك الوطني
(التي سيطروا عليها كلية منذ 1962) ليمتد إلى القطاعات الاستراتيجية مع
مرور الوقت.
لقد استعارت مجموعة «الفارين» من الحركة الوطنية لغتها ومناهجها لتعزيز مواقعهم وللوصول إلى أهدافهم.
إن المناداة الدائمة والثابتة بضرورة بناء دولة
قوية وقادرة والحفاظ على الوحدة الوطنية تعد في الواقع حجة واهية لإخفاء
رغبتهم في الوصول إلى السلطة ثم البقاء فيها، ولإخفاء ارتيابهم من مواجهة
الشعب والتيارات السياسية الموجودة، فضلاً عن احتقارهم التام للحريات
الأساسية والممارسة الديمقراطية. وسينكب «الفارون» وحلفاؤهم داخل مختلف
الأجهزة على التنظيم التدريجي، ابتداءً من انقلاب 1965 بالضبط، لاستخلاف
الإطارات الوطنية والنزيهة بإطارات من الفئة الفرانكوفونية عبر الأيام
وحسب الأحداث والظروف، هدفهم من ذلك دفن، وذلك بكل ما أوتوا من قوة، رموز
وثوابت الأمة الثورة والجزائر العميقة، منتظرين اللحظة الملائمة للرمي
بالبلاد تحت الهيمنة الثقافية والسياسة الفرنسية. وكان عليهم انتظار جانفي
1992 لتحقيق هدفهم عن طريق الانقلاب. لقد أصبح التسلــط والإقصــاء
واستعمــال قوة السلاح ضد القناعات السياسية المختلفة والقمع في جميع
أشكاله سياستهم من أجل الاحتفاظ بالسلطة. إن الأحداث المستعرضة بجرأة في
هذا الكتاب قد عشتها كفاعل وشاهد وملاحظ طوال هذه الفترة الكبيرة.
كانت الثورة بالنسبة إليّ أكبر ممارسة. لقد انتسبت
إليها بكل عزيمة منذ 1955 في سن 19، وبقيت وفيًا دائما لمبادئ أول نوفمبر
1954 وللقيم الأصيلة التي يتعلق بها الشعب ويتمسك بها بكل وجدانه، وهي
الحرية والتقدم والوفاء والعدالة الاجتماعية التي تمارس في إطار متفتح
وشفاف وخالية من كل وصاية ومن كل تسلط ومن كل بيروقراطية. لقد رفضت دومًا
العمل بذهنية التفرقة مهما تكن الوظائف التي مارستها خلال حرب التحرير أو
بعد الاستقلال. كنت أضع دائمًا الصالح العام والهدف الأسمى للعدالة
الاجتماعية فوق كل اعتبار آخر، رغم المحاولات المتكررة والعراقيل المتعددة،
بل حتى التهديدات الصادرة عن الأجهزة بغية شل عمل الإطارات الوطنية
المتفانية والمعروفة باستقامتها وروحها الاستقلالية. إنّه، بالفعل، لمن
الصعب على مسؤول سياسي شريف ممارسة وظائف حكومية بصفة صحيحة، نظرًا
للصعوبات والعراقيل التي يضعها في طريقه أبناء النظام، بعيدًا عن الوطنية
التي ترعرعت وتربت فيها. لقد حاربت بضراوة خلال العشر سنوات التي كنت فيها
مسؤولا حكوميًا.
ولم أوفق دائمًا في الحصول على الموافقة على
الإصلاحات التي كانت البلاد في أمس الحاجة إليها. فقد كانت المعارضة
والتردد سلعة رائجة بل وحتى العداء. وكانت تتخذ أشكالا متعددة. فمنذ دخولي
الحكومة في 1979، وبعد عرض الملفات الأولى في مجلس الوزراء، عمد أبناء
النظام إلى نعتي بجميع النعوت حسب الظروف والأحداث عن طريق الإشاعة بغية
ضرب مصداقيتي. ففي 1979 و1980 أطلقوا عليّ نعت «الوردي»، أي القريب من
الشيوعيين، ثم بين 1980 و1981 أثناء الإعداد لتطبيق الإصلاحات الأولى
المتعلقة بإعادة هيكلة المؤسسات العمومية، والمتعلقة بتشجيع الاستثمارات
الخاصة الوطنية والأجنبية وبإنشاء مؤسسات اقتصادية مختلطة مع شركاء أجانب،
كانت الإشاعة تظهرني كممثل للشركات المتعددة الجنسيات، وبين 1982 و1986
نعتوني «بالإخواني» لأنني كنت أتردد على المسجد. ولأن ذلك تزامن خاصة مع
صعود الحركة الإسلامية، في حين أني كنت أتردد دائمًا على المسجد قبل 1982
وبعد 1986. وبين 1986 و1988، عندما دافعت عن مصالح الجزائر لمعارضتي لبعض
الصفقات الكبيرة والتي كانت غير متوازنة إلى حد لا يمكن وصفه، وهي الصفقات
التي كان يدافع عنها ويرعاها العربي بلخير وحاشيته، الذين كانوا يشيعون
أني مُوالٍ لأمريكا وأني أملك فنادق في الولايات المتحدة، في حين أن الكل
يعلم أني لم أملك قط أي مدخول خارج مرتبي.
إن أبناء النظام لا يصدهم شيء من أجل ضمان ديمومة
النظام. وهكذا، كانت أحداث أكتوبر، على سبيل المثال، مخططة من طرف أبناء
النظام لإنقاذ نظامهم وتحسين مواقعهم، كل في مجال اختصاصه، في هرم السلطة.
هذه الأحداث المدبرة والمنظمة بطريقة ميكيافيلية تمثل مرحلة حاسمة نحو
انقلاب جانفي 1992 التي كرست مجموعة «الفارين» من الجيش الفرنسي، هذا
الانقلاب الذي افتتح مرحلة طويلة من العنف والرداءة وعدم الاستقرار.
لـــقـــد حان الوقـــت للعـــودة إلى المســــار
الديمقراطــــي والســيادة الشعبية، وهمـــا الضامنــــان الوحيـــدان
لإعــــادة الثقـــة بين الحاكــم والمحـكـوم، واستعادة السلم والاستقرار.
القســــــم الأول
المرحلة التحضيرية للانتقال من الاستعمار
إلى الاستعمار الجديد
إن التوجه السياسي لفرنسا في تعاملها مع الجزائر
بعد وصول الجنرال ديغول إلى الحكم قد تُرجم بتطبيق استراتيجية شاملة تهدف
إلى استبدال نظام استعماري جديد بنظام استعماري، لمنع الجزائر من استعادة
مكانتها الطبيعية في العالم العربي الإسلامي بعد حصولها على الاستقلال.
وتهدف أيضا إلى تفادي ابتعاد الجزائر المستقلة عن فرنسا على الصعيد السياسي
والاقتصادي والثقافي، ومنعها من إعادة بناء نفسها على أسس مستقلة لتلبية
تطلعات الشعب الجزائري الذي بقي متشبثا بكل جوارحه بالإسلام وقيمه التي
تدعو بصفة خاصة إلى الحرية والوحدة والأخوة والتضامن والعدالة الاجتماعية.
فمنذ البداية، كان الجنرال ديغول، على ما يبدو،
مقتنعًا بالمجيء الحتمي للاستقلال السياسي للجزائر. لكنه لم يدخّر أي جهد
لتحطيم الحركة المسلحة للتحرير الوطني وذلك بتعزيز الطاقة العسكرية
الفرنسية بصفة معتبرة. فعمليات الجيش الفرنسي الأكثر حدة والأكثر ضراوة
التي خاضها منذ نوفمبر 1954 ضد جيش التحرير الوطني وضد الشعب الجزائري
لاسيما في المناطق الجبلية والريفية كانت في ظل حكومة ديغول. وكان الهدف
استنزاف دم الجزائر العميقة وذلك بضربها في الصميم.
لكن، وبالموازاة مع التعزيزات التي لم يسبق لها
مثيل للجيش الفرنسي في عملياته القمعية والوحشية اليومية ضد الشعب
الجزائري، سواء في الأرياف أو في المدن، كان شارل ديغول يتطلع إلى
استراتيجية تهدف إلى تحويل الثورة الجزائرية عن مسارها الذي كان قد حدده
بيان أول نوفمبر 1954.
كانت هذه الاستراتيجية تهدف إلى تعزيز الوجود الفرنسي في الجزائر المستقلة في جميع الميادين.
وفي هذا الإطار، تم اتخاذ عدة تدابير خاصة
بالجزائر منذ سنة 1958 على الصعيد السياسي والعسكري والإداري والاقتصادي
والثقافي حتى تبقى الجزائر مرتبطة تماما وإلى الأبد بفرنسا بعد استعادة
استقلالها الشكلي، الذي كان ينظر إليه كحتمية. لقد جاءت هذه الإجراءات
لتضاف إلى إجراءات أخرى اتخذتها مختلف الحكومات الفرنسية منذ اندلاع حرب
التحرير، وذلك في إطار استراتيجية محددة.
لقد تم تقديم هذه الاستراتيجية تحت التسمية
الجذابة «الجزائر الجزائرية» للتجديد وإزالة تسمية «الجزائر الفرنسية»،
التي كانت الحكومة الفرنسية تدافع عنها رسميا قبل ذلك. وتهدف هذه
الاستراتيجية خاصة إلى استدراج الجزائريين في هذا الاتجاه لإضعاف جبهة
التحرير الوطني، بل حتى تهميشها.
فالجزائريون، سواءٌ كانوا مدنيين أو عسكريين،
الذين قيدوا في هذا الطريق ليشكلوا «القوة الثالثة»، لا يمكن اعتبارهم
جميعا عملاء في خدمة فرنسا الاستعمارية. لقد كان بالتأكيد بينهم الكثيرون
من ذوي النية الحسنة، كما كان هناك انتهازيون وأناس سلكوا ذلك المسلك خوفا
أو تحت تأثير غريزة البقاء.
إن دراستنا لن تطول بالنسبة لمختلف هذه الفئات
التي التحقت، في وقت أوفي آخر، بقضية «الجزائر الجزائرية» لأسباب تاكتيكية
أو عارضة. وتخص دراستنا فئة معينة من العسكريين الجزائريين الذين عملوا
في الجيش الفرنسي والذين يكونون قد أرسلوا في مهمة لدى جبهة التحرير
الوطني بتونس في دفعات متتالية بين 1958 و1961، والذين كان يطلق عليهم إذن
اسم «الفارين» من الجيش الفرنسي. لا نهدف هنا إلى الحديث عن جميع
«الفارين» على قدم المساواة. لقد علمتنا تجربة حرب التحرير في الواقع، أنه
كان هناك «فارون» وطنيون ونزهاء، الذين مارسوا، على كل حال، مسؤوليات
هامة في صفوف جيش التحرير الوطني مثل محمد شريف (قائد الولاية الأولى في
1957 وعضو في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في 1958) أو عبد
الرحمان بن سالم (قائد فيلق، ثم مسؤول منطقة العمليات للشمال بين 1960
و1962) أو عبد الله بلهوشات (قائد الناحية العسكرية الخامسة، ثم الناحية
العسكرية الأولى بين 1964 و1978، والقائد العام للقوات المسلحة بين 1987
و1989). وكان هناك أيضا عدد كبير من «الفارين» الذين التحقوا بصفوف جيش
التحرير الوطني في الداخل وبرهنوا على شجاعتهم وتفانيهم في الميدان، وقد
سقط منهم كثيرون في ميدان الشرف. وكان هناك أخيرا «فارون» وطنيون نزهاء
مثل مختار كركب (قائد فيلق بين 1960 و1962)، أو عبد الحميد الأطرش (الأمين
العام لوزارة الدفاع بين 1971 و1978) أو سعيد آيت مسعودان (عدة مرات وزير
في عهد بومدين وفي عهد الشاذلي) أو عبد النور بقة (قائد فيلق بين 1960
و1962 ووزير للشباب والرياضة في عهد الشاذلي).
يعيــــدنا الفصـــــل الأول إلى الظـــروف
التاريخية التي تكونت فيها هذه الطغمة زيادة على مجيء البنية التقنية ذات
التوجه الفرنسي التي ربطت معها هذه الطغمة تحالفات صلبة. ويفيدنا هذا
الفصل بعناصر موجهة لإلقاء الضوء على مناطق الظل حتى نلم أكثر بأسباب
المأساة الجزائرية التي تعقدت مع الأيام بعد الاستقلال.
الفصل الأول
«الجزائر الجزائرية» المؤسّسة على «القوة الثالثة»:
الطريق المباشر إلى الاستعمار الجديد
1 - «الجزائر الجزائرية»
إن مصطلح «الجزائر الجزائرية»(1) الذي استعمله
ديغول بالمناسبة يمثل الخلفية والتوجه والإيديولوجية، نوعا ما، والغطاء
السياسي، حتى لا نقول الغلاف، لهذه الإستراتيجية الشاملة. فهذا المصطلح
ليس وسطيا ولا متبذلا، ويظهر مغريا للشعب الجزائري، لكنه لا يعدو أن يكون
غير عدائي. فالمقصود منه حقيقة هي سياســة تهــدف أساسًا إلى قطـع صلة
الجزائر بعروبتها وانتمائها للإسلام الذي طبعها مدة 14 قرنا.
يجدر في هذا الصدد أن نوضح أولا مصطلحي «القوة
الثالثة» و«الجزائر الجزائرية» مع التذكير بمحتوى استيراتيجية فرنسا في هذا
الشأن.
لقد فعل ديغول بكل ما بوسعه للإبقاء على الوضع
الاستعماري للجزائر وإن كان قد تقبل مبدأ الاستقلال منذ وقت طويل كما أشار
إلى ذلك عدة مؤرخين فرنسيين. لكن الأحداث تبين جليا أنه لم يكن ينظر إلى
استقلال الجزائر إلا كإجراء أخير، بعد أن استنفذ جميع الوسائل. لهذا كان
تعزيز القدرة العسكرية الفرنسية كخيار حتمي قد فرض نفسه، لاسيما منذ 1958.
وقد ترجم هذا أيضا بالرفع من المجندين من تعداد
«الفرنسيين المسلمين» الذين يعملون كإضافيين لتدعيم الجيش الفرنسي في
مجهوده الحربي. حيث يقدر عدد المتعاونين الجزائريين المسجلين مع فرنسا في
مارس 1962 بمائتين وخمسين ألف رجل من بينهم 160000 احتياطي. هناك ارقام
مختلفة تتحدث عنها مصادر كثيرة. لكن يبدو أن رقم 250000(الذي يؤكده محند
حمومو) هو المعقول(1).
ويشمل هذا الرقم العسكريين المهنييين وجنود الخدمة العسكرية «المسلمين».
والإضافيين والمتعاونيين المدنيين الذين يمارسون
وظائف إدارية أو يمثلون النخب التي تعمل كواسطة بين سلطة الاحتلال والشعب
الجزائري الذي تتولى تسيير شؤونه.
إن توظيف الجزائريين «المسلمين» والإعتناء بعمالة
مدنية وعسكرية بهذه الأهمية يهدف إلى ربط الجزائر بفرنسا تحت أشكال جديدة.
الهدف الأول من استعمال هذه القوة الهائلة من
الأهالي هو تحطيم جيش وجبهة التحرير الوطني، ولتظهر فرنسا بهذا للشعب
الجزائري أن هناك بدائل أخرى غير الاستقلال «كالاندماج» مثلا أو
«الاستقلالية والإتحاد مع فرنسا» كما يقترحه ديغول في خطابه حول تقرير
المصير في سبتمبر 1959.
فمن الطبيعي أن يشكِّل المتعاونيين العسكريين
والمدنيين دعامة لنظام سياسي متجدد، وهياكل لجزائر جديدة تكون قد اختارت
«الاندماج» أو «الاتحاد» مع فرنسا. ويتعلق الأمر بتشجيع بروز «قوة ثالثة»
تكون وسطية بين من يريدون جزائر فرنسية والمدافعين عن استقلال الجزائر.
سيكون لهذه القوة «الثالثة» (المكونة من النخبة السياسية والجيش والشرطة
والادارة) المعارضة لجبهة التحرير الوطني والمتميزة عن المعمرين مهمة إدامة
الهيمنة الفرنسية ووجودها في الجزائر في جميع المجالات. بعبارة أخرى، لن
يبقى تسيير شؤون الجزائريين تتحكم فيه مباشرة فرنسا، مثلما كان عليه الأمر
في ظل نظام الاحتلال، لكن بواسطة جزائريين ذوي توجه فرنسي أُعِدُّوا
للمناسبة في «قوة ثالثة».
على كــل حــــال، فمـــنـــذ 1830 وطـــوال 130
عامـــا، كان احتــــلال الجـــزائر عبارة عن مسار متواصل يطبعه العدوان
العسكري والقمع السياسي والعنف القضائي والإضطهاد الثقافي والاستغلال
الاقتصادي الفادح لفائدة المعمرين وأقلية من «الفرنسيين المسلمين» المقطوعة
عن الشعب الجزائري والمرتبطة بقوى الاحتلال بامتيازات من كل نوع. إذن
«فحزب فرنسا» كان موجودًا دائما منذ القرن التاسع عشر. ويضم في صفوفه عدة
فئات من الموظفين المهنيين والاجتماعيين (عسكريين وموظفين وأصحاب مهن حرة
وأصحاب أملاك ومقاولين). لقد قامت المدرسة والجيش الفرنسي نوعا ما باستلاب
هذه النخب لصالح الدولة الاستعمارية التي كانت تكفل لهم وضعية متميزة عن
الشعب الجزائري(1). إن تيار « حزب فرنسا» هذا الذي أطلق عليه بالمناسبة إسم
«القوة الثالثة» والذي حاولت فرنسا تأسيسه قبل 1962 على شكل مؤسسات بغية
التحكم في مصير الدولة الجديدة، نابع من المخطط الاستعماري الجديد. هؤلاء
الجزائريون الموالون لفرنسا المشكلون في «قوة ثالثة» (أطلق عليهم فيما بعد
اسم «حزب فرنسا» الذي سيقع على عاتقه إقامة هذه المؤسسات بحصولهم على
الحكم بتزكية فرنسا.
وتتوفر فرنسا لهذا الغرض على وسائل بشرية ومادية
ومالية معتبرة لتجسيد مشروعها المتمثل في «القوة الثالثة» لكن خارج الشعب
الجزائري، بل حتى ضده. يتمثل الهدف النهائي طبعًا في الإبقاء على الهيمنة
الفرنسية في الجزائر لاسيما على الصعيدين الاقتصادي والثقافي. ولإخفاء
النوايا الاستعمارية الجديدة لهذا المشروع تم إضفاء اسم غامض عليه وهو
«الجزائر الجزائرية».
هذا المصطلح يبدو ظاهره عاديًا ولا يدعو لأية
معارضة، لكن باطنه يحوي الكثير، وقد استعمله ديغول ورجال السياسة
الفرنسيون ووسائل الإعلام خلال السنتين الأخيرتين من حرب التحرير.
يفهم من هذا المفهوم أن فرنسا مستعدة إلى أقصى حد
لقبول استقلال الجزائر السياسي لكن بإفراغ محتواه. يعني هذا على الخصوص
أن فرنسا لن تقبل أن تسترجع الجزائر شخصيتها الأصلية المبنية على العروبة
والإسلام. لم تكن الفكرة في هذا السياق إلاّ لأن تُعجِب فرنسا، وهو أن ترى
الجزائر مستقلة شكليًا لكن ضعيفة واهنة منبطحة ومرتبطة بفرنسا في
المجالات الاستراتيجية.
إن تصور فرنسا «للجزائر الجزائرية» يفترض بكل وضوح
الحفاظ على «الإشعاع الثقافي الفرنسي» وذلك بالإبقاء على الفرنسية كلغة
رسمية للجزائر المستقلة على حساب اللغة العربية. وهذا يؤدي في الوقت نفسه
إلى الحفاظ على المصالح الاقتصادية لفرنسا بعد الاستقلال، بل أن اللغة
العربية تم التضحية بها في مذبح إيفيان، كما سنرى لاحقًا.
لقد ترجمت فكرة «الجزائر الجزائرية» بإعداد
وتطبيق استراتيجية حقيقية اُستُكملت في عهد ديغول وتهدف إلى إبقاء الجزائر
«المستقلة» في أحضان فرنسا.
وهكذا كان إنشاء «قوة (مسلحة) محلية» وتنظيم
الإدارة والاقتصاد يتفق مع هذا الانشغال الأعظم وذلك بتزويد الجزائر
بأجهزة مناسبة موالية لفرنسا وبخلق نظام سياسي واجتماعي يعارض أهداف جبهة
التحرير الوطني وتطلعات الشعب الجزائري، قبل حصوله على الاستقلال بوقت
طويل. وهكذا تم تلغيم الجزائر عند نهاية فترة الاحتلال.