في اختراع الأسماء ونقلها عند الفارابي
تعود شهرة الفارابي في الغرب إلى كتاب الحروف وتعود شهرة كتاب الحروف إلى
الفصل الخامس والعشرين الأخير من الباب الثاني والمعنون: اختراع الأسماء
ونقلها، وسبب شهرة هذا الفصل أن المعلم الثاني لا يعرض فيه نظرية في
الترجمة العلمية فحسب بل علاوة على ذلك يحدد فيه طرق نقل المعاني الفلسفية
من لغة إلى لغة أخرى ويجيب عن سؤال: كيف ينبغي أن تؤخذ المعاني الفلسفية
عند التعليم؟ ويرسم بذلك نقاط الإتباع والإبداع الفلسفي بين العرب
والإغريق."
الفصل الخامس والعشرون من رسالة الحروف
اختراع الأسماء ونقلها
(154) فإذا حدث ملّة في أمّة لم تكن لها ملّة قبلها ولم تكن تلك ملّة لأمّة
أخرى قبلها، فإنّ الشرائع التي فيها بيّن أنّها لم تكن معلومة قبل ذلك عند
تلك الأمّة، ولذلك لم تكن لها عندهم أسماء. فإذا احتاج واضع الملّة إلى أن
يجعل لها أسماء فإمّا أن يخترع لها أسماء لم تكن تُعرَف عندهم قبله وإمّا
أن ينقل إليها أسماء أقرب الأشياء التي لها أسماء عندهم شبها بالشرائع التي
وضعها. فإن كانت لهم قبلها ملّة أخرى فربّما استعمل أسماء شرائع تلك
الملّة الأولى منقولة إلى أشباهها من شرائع ملّته. فإن كانت ملّته أو بعضها
منقولة عن أمّة أخرى فربّما استعمل أسماء ما نُقل من شرائعهم في الدلالة
عليها بعد أن يغيّر تلك الألفاظ تغييرا تصير بها حروفُها وبِنْيَتُها حروفَ
أمّته وبنيتَها ليسهل النطق بها عندهم. ولإن حدث فيهم الجدل والسوفسطائيّة
واحتاج أهلها إلى أنينطقوا عن معان استنبطوها لم تكن لهاعندهم أسماء، إذ
لم تكن معلومة عندهم قبل ذلك، فإمّااخترعوا لها ألفاظا من حروفهم وإمّا
نقلوا إليها أسماء أقرب الأشياء شبها بها. وكذلك إن حدثت الفلسفة احتاج
أهلها ضرورة إلى أن ينطقوا عن معان لم تكن عندهم معلولة قبل ذلك، فيفعلون
فيها أحد ذينك.
(155) فإن كانت الفلسفة قد انتقلت إليهم من أمّة أخرى، فإنّ على أهلها أن
ينظروا إلى الألفاظ التي كانت الأمّة الأولى تعبّر بها عن معاني الفلسفة
ويعرفوا عن أيّ معنى من المعاني المشتركة معرفتها عند الأمّتين هي منقولة
عند الأمّة الأولى. فإذا عرفوها أخذوا من ألفاظ أمّتهم الألفاظ التي كانوا
يعبّرون بها عن تلك المعاني العاميّة بأعيانها، فيجعلوها أسماء تلك المعاني
من معاني الفلسفة. فإن وُجدت فيها معان نقلت إليها الأمّة الأولى أسماء
معان عاميّة عندهم غير معلومة عند الأمّة الثانية وليس لها عندهم لذلك
أسماء، وكانت تلك المعاني بأعيانها تشبه معان أخر عامّيّة معلومة عند
الثانية ولها عندهم ألفاظ، فالأفضل أن يطّرحوا أسماءها وينظروا إلى أقرب
الأشياء شبها بها من المعاني العامّيّة عندهم فيأخذوا ألفاظها ويسمّوا بها
تلك المعاني الفلسفيّة. وإن وُجدت فيها معان سُمّيت عند الأولى بأسماء أقرب
الأشياء العامّيّة شبها بها عندهم وعلى حسب تخيّلهم الأشياء، وكانت تلك
المعاني الفلسفيّة أقرب شبها عند الأمّة الثانية على حسب تخيّلهم للأشياء
بمعان عامّيّة أخرى غير تلك، فينبغي أن لا تسمّى عند الأمّة الثانية
بأسمائها عند الأمّة الأولى ولا يُتكلَّم بها عند الأمّة الثانية. فإن كانت
فيها معان لا توجد عند الأمّة الثانية معان عامّيّة تشبهها أصلا - على أنّ
هذا لا يكاد يوجد - فإمّا أن تُخترَع لها ألفاظ من حروفهم، وإمّا أن
يُشرَك بينها وبين معان أخر - كيف اتّفقت - في العبارة، وإمّا أن يعبَّر
بها بألفاظ الأمّة الأولى بعد أن تُغيَّر تغييرا يسهل به على الأمّة
الثانية النطق بها.ويكون هذا المعنى غريبا جدّا عند الأمّة الثانية، إذ لم
يكن عندهم لا هو ولا شبهه. وإن اتّفق أن كان معنى فلسفيّ يشبه معنيين من
المعاني العامّيّة، ولكلّ واحد منهما اسم عند الأمّتين، وكان أقرب شبها
بأحدهما، وكانت تسميتها له باسم الذي هو أقرب شبها به، فينبغي أن يسمّى ذلك
باسم ما هو أقرب شبها به.
(156) والفلسفة الموجودة اليوم عند العرب منقولة إليهم من اليونانيّين. وقد
تحرّى الذي نقلها في تسميّة المعاني التي فيها أن يسلك الطرق التي
ذكرناها. ونحن نجد المسرفين والمبالغين في أن تكون العبارة عنها كلّها
بالعربيّة. وقد يُشركوا بينها . منها أن يجعلوا لهذين المعنيين اسما
بالعربيّة: فإنّ الأسطقس سمّوه " العنصر " وسمّوا الهيولى " العنصر " أيضا -
وأمّا الأسطقس فلا يسمّى " المادّة " و" هيولى " - وربّما استعملوا "
الهيولى " وربّما استعملوا " العنصر " مكان "الهيولى". غير أنّ التي تركوها
على أسمائها اليونانيّة هي أشياء قليلة. فما كان من المعاني الفلسفيّة جرى
أمر التسمية فيها على المذهب الأوّل فتلك المعاني يقال إنّها مأخوذة من
حيث هي معان مدلول عليها بألفاظ الأمّتين. وإن كانت المعاني العامّيّة التي
منها نُقلت إلى المعاني الفلسفيّة أسماؤها مشتركة لجميع الأمم كانت تلك
المعاني الفلسفيّة مأخوذة من حيث تدلّ عليها ألفاظ الأمم كلّها. وما جرى
أمر التسمية فيها على المذاهب الباقية فإنّها مأخوذة من حيث تدلّ عليها
ألفاظ الأمّة الثانية فقط.
(157) وينبغي أن تؤخذ المعاني الفلسفيّة إمّا غير مدلول عليها بلفظ أصلا بل
من حيث هي معقولة فقط، وإمّا إن أُخذت مدلولا عليها بالألفاظ فإنّما ينبغي
أن تؤخذ مدلولا عليها بألفاظ أيّ أمّة اتّفقت والاحتفاظ فيها عندما يُنطَق
بها وقت التعليم لشبهها بالمعاني العامّيّة التي منها نُقلت ألفاظها.
وربّما خُلطت بها وأُوهم فيها أنّها هي المعاني العامّيّة بأعيانها في
العدد وأنّها مواطئة لها في ألفاظها. فلذلك رأى قوم أن لا يعبّروا عنها
بألفاظ أشباهها بل رأوا أنّ الأفضل هو أن تُجعَل لها أسماء مخترَعة لك تكن
قبل ذلك مستعمَلة عندهم في الدلالة على شيء أصلا، مركَّبة من حروفهم على
عاداتهم في أشكال ألفاظهم. ولكنّ هذه الوجوه من الشبه لها غَناء مّا عند
تعليم الوارد على الصناعة في سرعة تفهيمه لتلك المعاني متى كانت العبارة
عنها بألفاظ أشباهها من المعاني التي عرفها قبل وروده على الصناعة. غير
أنّه ينبغي أن يُتحرَّز من أن تصير مغلطة على مثال ما يُتحرَّز به من تغليط
الأسماء التي تقال باشتراك.
(158) والألفاظ المنقولة عن المعاني العامّيّة إلى المعاني الفلسفيّة فإنّ
كثيرا منها يستعملها الجمهور مشتركة لمعان عامّيّة كثيرة وتُستعمَل في
الفلسفة أيضا مشتركة لمعان كثيرة. والمعاني التي تشترك في اسم واحد منها ما
هي صفة في ذلك الاسم المشترك؛ ومنها ما لها نِسَب متشابهة إلى أشياء
كثيرة؛ ومنها ما يُنسَب إلى أمر واحد على الترتيب، وذلك إمّا أن تكون
رتبتها من ذلك الواحد رتبة واحدة وإمّا أن تكون رتبتها منه متفاضلة بأن
يكون بعضها أقرب رتبة إليه وبعضها أبعد منه. وكلّ واحد من هذين إمّا أن
تسمّى هي باسمٍ واحد غير اسم الأمر الواحد الذي إليه نُسبتوإمّا أن تسمّى
هي وذلك الأمر معا باسمٍ واحد بعينه. ويكون ذلك الأمر الواحد أشدّها
تقدّما. وتقدّمه قد يكون في الوجود وقد يكون في المعرفة. فالذي يرتّب كلّ
واحد منها إذا كان في المعرفة، وتقاس إلى الواحد الذي هو أعرف، فإذن أعرف
كلّ اثنين منهما وأقربهما في المعرفة إلى ذلك الواحد الذي هو أعرفها كلّها
هو أشدّهما تقدّما، ولا سيّما إذا كان مع أنّه أعرف سببا أيضا لأنيُعرَف أو
عُرف به الآخر. وأحراها بذلك الاسم أو أحراها بأن يُجعَل له ذلك الاسم
بإطلاق ذلك الواحد إذا كان أيضا سُمّي باسم تلك، ثمّ أولى الباقية ما كان
أعرف أو كان أعرف وسببا لأن تُعرَف به الأخر، إلى أن يؤتى على جميع ما
يسمّى بذلك الاسم. وعلى هذا المثال إذا كان فيها واحد هو أقدمفي الوجود أو
كان مع ذلك سببا لوجود الباقية فإنّه أحقّ وأولى بذلك الاسم على الإطلاق،
ثمّ كلّ ما كان أقرب في الوجود إلى ذلك الواحد، ثمّ الأقرب فالأقرب، أحقّ
بذلك الاسم، ولا سيّما إذا كان أكمل اثنين منهما سببا لوجود الآخر، فإنّه
أحقّ بذلك الاسم من الآخر. وقد يتّفق في كثير من الأمور أن يكون الأقدم في
المعرفة هو أشد تأخّرا في الوجود والآخر منهما أشدّ تقدّما في الوجود،
فيكون اسما لها واحدا لأجل تشابه نِسَبها إلى أشياء كثيرة، أو لأجل على
أنّها تُنسَب إلى شيء واحد - إمّا بتساو أو بتفاضل، كان ذلك الواحد يسمّى
باسمها هي أو كان يسمّى باسمٍ غير اسمها. وهذه غير المتّفقة أسماؤها وغير
المتواطئة أسماؤها، وهي متوسّطة بينهما، وقد تسمّى المشكَّكة أسماؤها.