[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]سلسلة مقالات رمضان 1430 هـ
طريق المحبين
لفضيلة الشيخ :
ياسر برهامي
المصدر :
ملف رمضان بموقع صوت السلف
(1)
يحبُّهم ويحبُّونه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن عبادة الحب هي أساس الإيمان والعبادة؛ لأن العبادة هي كمال الحب مع كمال الذل، فحب الله -عز وجل- لا يصح الإيمان بدونه، فإذا زال الحب زال الإيمان بالكلية.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة:54)، فبيَّن الله -عز وجل- صفة أهل الإيمان الكُمَّل الذين ينصر بهم دينه، فهؤلاء الذين يحبهم الله -عز وجل-، ويحبونه -سبحانه وتعالى-، فأول فِعل ذكرَه من أفعالهم أنهم يحبونه -عز وجل-، وأثمر حبُّهم لله -عز وجل- حبَّهم لإخوانهم في الله، فلذلك صاروا أذلة عليهم، وضَمَّن الذِّلة معنى الشفقة، فهم مشفقون عليهم، والذِّلة تُعدّى باللام فيُقال: ذلَّ له، وتُعدّى بـ(على) فيُقال: ذل عليه، فإذا كانت التعدية بـ(على) تضمَّنت معنى الشفقة والعطف ونحو ذلك؛ لأنه في الحقيقة ليس خاضعًا له، لكنه محبٌّ له، يشفق عليه، ويعطف عليه، ويرحمه، ونحو ذلك، والله أعلم.
فذُلُّهم لله دفعَهم إلى أن يكونوا عطوفين رحماء بالمؤمنين؛ لأنهم يحبون من يحب الله ويعبده، كما يثمر لهم أيضًا العزة على الكافرين، والغلظة عليهم، والبغضاء لهم،فتبدو بينهم وبين الكافرين العداوة والبغضاء أبدًا حتى يؤمنوا بالله وحده، فقوله: (أَعِزَّةٍ عَلَى) عدَّى الفعل بـ(على) لأنه ضمَّنه معنى الشدة، وهذا مثل قوله تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) (الفتح: 29)، فلما أحبوا الله أحبوا أولياءه الذين يحبونه، فعاملوهم بالمحبة، والرأفة، والرحمة، وأبغضوا أعداءَه الذين يُعادونه، فعاملوهم بالشدة والغلظة.
ثم يدفعهم حبهم لله إلى نشر هذا الحب والعبادة والإيمان في الأرض؛ ليُعبد الله وحده لا شريك له، فيحبون أن يُعبد الله في الأرض، ولذا يجاهدون في سبيل الله: جهاد القرآن وجهاد السنان، فيجاهدون بما يقدرون عليه من أنواع الجهاد حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، فتظهر عزتُهم على الكافرين، وبغضهم للكفر، وبراءتهم منه، فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب، وأيضًا فالجهادُ في سبيل الله دعاء للمعرضين عن الله إلى الرجوع إليه بالسيف والسنان بعد دعائهم إليه بالحجة والبرهان، فالمحب لله يحب اجتلاب الخلق كلهم إلى بابه، فمن لم يُجب الدعوة باللين والرِّفق احتاج إلى الدعوة بالشدّة والعنف، قال –صلى الله عليه وسلم-: (عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الجَنَّةِ بِالسَّلاسِلِ) (رواه البخاري).
فتدفعهم محبتهم لله -عز وجل- إلى أن يزيلوا علوَّ الكفر في الأرض، وإن كانوا لا يستطيعون إزالة الكفر من القلوب؛ لأن القلوب بيد الله -سبحانه وتعالى-، وما شرع الله -سبحانه وتعالى- أن يُكرَه الناس حتى يكونوا مؤمنين، ولكن شرع -عز وجل- أن لا يعلو فوق أرضه إلا الإيمان، ثم الناس بعد ذلك يختارون: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29)، وإذا ظهر الإيمان وعرفه الناس آمنوا، وأعظم مانع يمنع الناس عن الإيمان أنهم لا يعرفونه ولا يعرفون حقيقته، وأنه تُلبَّس عليهم الأمور، فتكذب عليهم شياطين الإنس والجن حتى يشوِّهوا صورة الإيمان، لذا كان الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله؛ لأنه إذا علت كلمة الله فسوف يدخل الناس في دين الله مختارين طائعين، وهذا من كمال حب المؤمنين لربهم -عز وجل- أن يسعوا لنشر محبته وعبوديته في الأرض، فأكمل الخلق إيمانًا وعبودية لله -عز وجل- من يَعبد في نفسه، ويسعى أن يُكمِّل عبودية غيره، حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، ولذا كان أكملُ الخلق الرسلَ، وكان أكملُ هؤلاء على الإطلاق محمدًا -صلى الله عليه وسلم- القائل: (بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ لا شَرِيكَ لَهُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
وقوله تعالى: (وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) أي: يفعلون ذلك، ولا يعبؤون بلوم اللائمين إذا عاتبوهم، أو لاموهم، أو ذموهم على إرادتهم نشر هذا الدين ونشر عبادة الله -عز وجل-، حيث أنهلا همَّ للمحبِّ غيرُ ما يُرضي حبيبه، رضي من رضي، وسخط من سخط، من خاف الملامة في هوى من يُحبُّه فليس بصادقٍ في المحبَّة.
فالوصف الأول المُحرِّك لكل ذلك (وَيُحِبُّونَهُ)، وهو في الحقيقة (يُحِبُّهُمْ) لأنهم أطاعوه وأحبوه،وذكر -عز وجل- محبته لهم أولاً قبل حبهم له ـ مع أن حبَّه لهم -عز وجل- إنما كان لطاعتهم وعبادتهم ـ لأن هذا أشرف شيء من صفاتهم أن الله يحبهم، فهذا الذي يتشرفون به، ويقصدونه، ويريدونه، ويسعون من أجله، فأشرف صفاتهم وأعلى منازلهم أن الله يحبهم، فبدأ بذكر حبه لهم مع أن حبه -عز وجل- إنما يكون بعد استكمال العبادة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ (اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ) (رواه البخاري)، ففي هذا الحديث أن الله يحب العبد بعد أن يتقرب إليه بالفرائض أولاً،ثم يواظب على النوافل،حتى يصل إلى درجة المحبوبية، لكن ذُكرت محبته -عز وجل- لهم في الآية أولاً لأن حبَّه -عز وجل- هو الغاية المقصودة التي يسعون إليها، فهم يريدون أن ينالوا محبة الله -عز وجل-، وهذا أشرف شيء يوصفون به، والله أعلى وأعلم.
نسأل الله أن يرزقنا حبَّه، وحبَّ من يحبه، وحبَّ عمل يقربنا إلى حبِّه.
منقول