دور الترجمة في الفكر العربي
إنه لمن حق الترجمة علينا أن ندرسها وأن نقوم بنشرها والدعوة إلى الأخذ بها لأنها ميزة تميز بها السلف وينبغي أن يتوارثها الخلف. وإذا ما تذكرنا أن لكل شيء في هذا الوجود تاريخاً، فإننا لا نندهش أن يكون للترجمة تاريخاً. نعم، إن الترجمة كائن حي قديم، وينبغي لنا أن نعرض لأحوالها وما لها من قوة أو ضعف، وأن نحيط خُبراً بتأثيرها ودورها في حياتنا الاجتماعية والثقافية، ولا بد كذلك من معرفة خصائصها وظروفها، لكي نلم بثوابتها ونرتقي بأساليبها وطرائقها في عصرنا الحديث، حيث لا تنفصل الترجمة عن الثقافة ولا عن الفكر والوجدان في عالمنا العربي.
ونود هنا أن نلقي نظرة سريعة على تاريخ الترجمة العربية، وهو موضوع سبق أن تناولته أقلام العلماء والدارسين وقتلوه بحثاً وتمحيصاً، فبفضل الترجمة تولدت الحضارة العربية والعلم العربي الذي ساهم في تكوينه مفكرون من مختلف القوميات والجنسيات، سريانيون وفرس وصابئة ومسيحيون نساطرة ويونانيون وأقباط من مصر وعبرانيون وهنادكة وأتراك وذميون، ولكن بلسان عربي، وفي ظل الدين الإسلامي الحنيف الذي لجأ إلى العقل ليحرك به الوعي الذاتي للفرد ويدفع به إلى الاستقلال في الرأي، ومن هنا تأكيد مبدأ "الرأي" و"القياس" و"الاجتهاد" في كل العلوم، وبخاصة الترجمة التي أصبحت القوة الدافعة للمذهب العقلي، والتي ربطت اللغة العربية بالمجرى العام للفكر الإنساني في تلك العصور. وقد مكنت هذه الترجمة من الوقوف على آراء الأقدمين في مشكلات الوجود الكبرى وطرق حلها، ومن هنا نشأ التفاعل بين الفكر العلمي العربي والفكر العلمي الأجنبي، وساهمت سماحة الإسلام في انتشار الترجمة والتأليف، فظهرت مدارس الترجمة واشتهرت برجالها من أمثال بختيشوع وأسرته، وأبو يحيى البطريق وابنه زكريا، وأبو زيد حنين بن إسحاق العبادي وابنه يعقوب، وغير ذلك من طوائف المترجمين الذين كانوا من أصل صابئي وعلى رأسهم ثابت بن قرة الحراني، وهو من الذين مهدوا لحساب النهايات ثم التفاضل والتكامل، ونحن مدينون له بترجمة نظرية الاهتزاز الأرضي وبكتاب الذخيرة في الطب، وهو كتاب يبحث في علاج الأمراض بوجه خاص.
لقد أعطت الحضارة العربية الكثير لأنها تلقت الكثير من الحضارات الأخرى كاليونانية والفارسية والهندية، تلقت هذا كله ثم أساغته، وصاغت منه ثقافة عربية، ثم استخرجت منه خلاصتها، ثم أهدتها إلى الغرب قبل القرن الخامس عشر بوقت طويل. وإذا كانت الحضارة العربية قد استطاعت أن تنهض بهذا العبء الخطير، فهي قادرة فيما أحسب أن تتقبل الحضارة الأوروبية الحديثة بقبول حسن. وإننا الآن في أشد الحاجة إلى التعمق في علم الترجمة والوقوف على مفرداتها وأسسها لكي لا يفوتنا الاطلاع على ما يجري في عالمنا المعاصر الذي أصبح فيه هذا الكون بمثابة قرية صغيرة تعج كل ثانية بالمستجدات والأحداث الجسام التي قد تنعكس سلبا أو إيجابا على حياتنا نحن العرب، ولا بد لنا من أن نعرف ما يدو ر من حولنا وما يراد بنا وبحضارتنا ومبادئنا، وأن نوسع بالتالي إمكانات حوار الثقافات والأديان، ولن يتأتى ذلك إلا بالتمعن في قراءة الآخر، وهو أمر قد يكون ميسرا وسهلا للعارفين باللغات الأجنبية، وقد لا يكون كذلك بالنسبة للمواطن العادي الذي لا يجيد اللغات الأخرى ولكنه يطمع في الاستزادة والاستفادة من علوم الآخر وأفكاره ومبتكراته. ولقد أتاحت لنا هيئة الأمم المتحدة ومنظومتها العالمية فرصة فريدة بل واستثنائية باعتمادها اللغة العربية في أواخر السبعينات كلغة رسمية لها وما استتبع ذلك من إدخال الترجمات الفورية والتحريرية على كل أعمالها وأنشطتها، فأصبح مندوبو الدول العربية بل وكل قراء العالم العربي في وضع يتيح لهم الإلمام بمجريات الأمور فيها وبما يدور في أروقتها وخارجها وما يصدر عنها من مطبوعات ومنشورات تتناول موضوعات على قدر كبير من الأهمية بالنسبة لنا، مثل حقوق الإنسان والبيئة والعلوم والثقافة والاقتصاد والتجارة والتنمية والقانون الدولي والصحة وغيرها من الموضوعات الغنية بالأفكار، ناهيك عن الأرصاد الجوية والملكية الفكرية وغيرها من المجالات الهامة التي تمس حياتنا اليومية ومستقبلنا ومستقبل الأجيال القادمة. وقد أوجد هذا الاستعمال للغة العربية في المنظمات الدولية مهنة "المترجم الدولي" الذي يتولى تحويل وثائقها إلى نصوص عربية، وأصبحت مهمة هذا المترجم هي مساعدة الأشخاص والمجموعات الإنسانية، العربية منها والأجنبية، على التعارف والتفاهم فيما بينها بصورة أفضل بل وزيادة الاحترام المتبادل بينها. ومن ثم أصبحت هذه المهنة، وبغض النظر عن أي مزايا مادية أو وظيفية، من أجمل المهن وأشرفها في عالمنا الحديث.
واللغة العربية تقدم لنا، ولله الحمد، إمكانات كبيرة لعملية الترجمة بفضل طبيعتها الخاصة ومميزاتها الصرفية وثراء مفرداتها وسهولة الاشتقاق والنحت والمزج، مما يساعد على وضع المصطلحات بطريقة سليمة وميسرة، وعلى ترجمة الكتب العلمية المتخصصة وتتبع نمو المفاهيم العلمية والأدبية وصولاً إلى أحدث الاكتشافات والمخترعات، وهذا أمر لا غنى عنه لكل أمة تسمو إلى النهوض وإلى اللحاق بركب التقدم وإلى التواصل الفكري مع مختلف الثقافات والحضارات.</SPAN> </SPAN>
</SPAN>
</SPAN></SPAN>
"لو كانت اللغة فحماً؛ لكان الشاعر هو الشخص الذي يوقد هذا الفحم، ولكان الضياء في ألسنة اللهب، هو الشعر الذي يضيء القلوب".