عرف القراء العرب خصوصاً الفرنكوفونيين محمد ديب (1920 – 2003) روائياً أكثر منه شاعراً. ودمغ نتاجه النثري والسردي، في فترة شهدت الجزائر الإرهاصات الأولى لبداية احتضار الاستعمار الفرنسي، الأدب الجزائري ببصمات بارزة وعبر نصوص لم تفقد من راهنيتها مثل «الحريق» و «في المقهى» و «صيف إفريقي» و «من يتذكر البحر» أو «الطلسم»، أي ما مجموعه 43 نصاً نثرياً، نشرت لدى كبريات الدور الفرنسية مثل غاليمار وسوي وآكت سود. وهكذا تبوأ ديب بنتاجه الروائي مكانة مفضلة فيما لم يعرف عن شعره إلا ما عرفه الأصدقاء والدارسون لنتاجه لغايات أكاديمية أو جامعية. لكن هذا التصور تبدّد على اثر صدور الأعمال الشعرية الكاملة حديثاً عن منشورات لاديفيرانس في 536 صفحة. بعض من هذه الأشعار منشور، فيما الأكثرية تنشر هنا للمرة الأولى. وكان لا بد لشاعر من أن يقوم بعملية التجميع والقراءة والاختيار والتنقيح، كي يوفر منتوجاً شعرياً متناسقاً ومحكم القوام. وهذا ما أنجزه الشاعر والروائي حبيب طنغور الذي اشتغل مدة أربع سنوات لاستكمال مبنى المتن الشعري لمحمد ديب. وأن يقدم شاعر شاعراً آخر، بل ان يقدم التلميذ أستاذه فهو أمر يدل على الأثر الذي خلفه ديب في جيل بأكمله عاين البعض منه الاستعمار فيما اعتبر البعض الآخر جيل الاستقلال الخائب، مع العلم أن الشاعر -الروائي اجتاز عصره الموسوم بالحروب والانتكاسات التي ألهمته أسئلة عميقة عن ماهية العنف وقوته المدمرة.
ولد محمد ديب عام 1920 في مدينة تلمسان. قبل الحرب العالمية الثانية، عمل أستاذاً في مدرسة تقع على الحدود المغربية - الجزائرية. اشتغل مصمماً للسجاد ورساماً، قبل أن يعمل في الصحافة وتحديداً في «ألجيه ريبيبليكان»، التي غادرها عام 1951. في 1959 طردته السلطات الفرنسية من الجزائر، فاستقر في الجنوب الفرنسي، قبل أن يقيم في الجهة الغربية من باريس. قام بأسفار إلى المغرب وبلدان أخرى. عمل أستاذاً زائراً في كاليفورنيا ثم فنلندا عام 1975. حصل على جائزة الفرنكوفونية وجائزة مالارمي عام 1998.
تتضمن الأعمال الشعرية الكاملة نصوصاً نشرها محمد ديب وهو على قيد الحياة إضافة إلى مجموعتين لم يسبق نشرهما لكنهما موزعتان في أعماله النثرية. عرف عن محمد ديب أنه الشاعر المغلق والمعقد. ولكن لا تتم مقاربة عالمه الشعري إن لم نعقد قرابته بالشاعر مالارمي. القول الشعري تجربة، امتحان ومحنة ولا يمكن التعاطي بالشعر كيفما اتفق.
حرص ديب على نسج سلالته الشعرية مع شعراء «الجاهلية» ( الأسلاف) حتى أراغون وغيلفيك، اللذين كانت تربطه بهما صداقة قوية. يستحم شعر ديب في ضياء أرض الطفولة والأصول، ينهل من ينابيعها وشفافيتها. هذا الشعر الإروسي والمقاوم لكل تصنيف، يستكشف الجسد، يسائل الذاكرة، يبجل لحظات الطفولة الحاملة أحلام المستقبل. لهذا يستعصي شعر ديب عن أي مقاربة ذهنية فيما تجب قراءته في شكل مفتوح وعفوي من دون تكلف. ترك ديب القول الشعري يصدح ويفصح عن حثيثه وأصواته.
البعد الصقيل لشعر ديب يتأتى أيضاً من كتابته الروائية. يدين الشعر للكتابة الروائية في انتقاء الكلمات المتقشفة، في تقاطع الظرفي بالعابر والأبدي... نداء الصحراء قوي، لكن الصحراء استعارة للمرآة، الجنون، التيه، المهجر... في هذا الترحال، يحتفظ الشاعر بلغته الأصل، لكنه يكتب ويعبر بلغة أخرى. ثمة غرابة يشعر بها الشاعر تجاه اللغة الفرنسية التي تبناها في لغته. الانزياح اللغوي هو ما يمكّن الشاعر من تسجيل أو نعت أو توصيف أشياء العالم. اختيار اللغة الفرنسية، التي يقول عنها محمد ديب، إنها تتضمن «شفافية مظلمة» تناسب طبعه، وفيها يتعرف إلى ذاته. عرف هذه الحالة كتّاب حلوا في ضيافة الفرنسية بعادات وقواعد عاثت في نسق اللغة المضيافة. ولنا في بيكيت، ميلان كونديرا، إسماعيل قدري وغيرهم أفضل مثال. وعلى رغم تهجمات الحركة الوطنية على الكتاب الفرنكوفونيين، فإن محمد ديب، فتح الطريق لجيل بكامله كي يكتب بالفرنسية من دون عقد.
تركيبة القصيدة لدى محمد ديب تعطينا فكرة عن علاقته باللغة الفرنسية: كطفل في القسم لمّا يحاول المعلم تلقينه صحيح الآداب، ينطق بالحروف إما معكوسة وإما خاطئة. أثر الاستعمار هنا واضح وكان لا بد من التخلص من هذا الثقل.
بيد أن تيه الطفل في فيافي وقفار مهجورة ما لبث أن أفضى إلى عالم جديد يثير اكتشافه الدهشة والغرابة.
ينتمي محمد ديب إلى الشعراء الذين تتغذى كتابتهم من الأساطير ومن ماديتها الأوقيانوسية والعجائبية. يتجلى في نصه «هابيل» هذا البعد الأسطوري لما يعيد قص أو مسرحة أسطورة قابيل وهابيل. رافق محمد ديب الكتابة إلى حد الإنهاك والاستنزاف، إلى درجة إحساس الشاعر بالحرمان بل بالإحباط. «لم تجلب لي تجربة الكتابة سوى الحرمان، خيبات الأمل، الندم، إن على مستوى الشكل أو المضمون...». إنها تجربة الأقاصي التي جعل منها هنري ميشو لبّ الفعل الشعري. وفي هذا المشوار ومساربه الملتوية مشى محمد ديب.