يعنى علم الآثار بدراسة الإنسان منذ بداية ظهوره كما يعني بدراسة مخلفاته من الأدوات التي صنعها والأسلحة التي استعملها والكهوف والمنازل التي عاش فيها ، والقبور التي حوت رفاته والمعابد التي تعبد فيها والكتابات التي دون بها أعماله وغير ذلك مما يعثر عليه عالم الآثار فوق سطح الأرض , وخاصة أطلال المدن والجبانات ومواطن السكن أو في باطنها من بقايا هذا الإنسان ومخلفاته . فالماضي إذن هو مجال بحث علم الآثار, ويشمل هذا الماضي كل العصور والفترات الزمنية التي عاشها الإنسان والتي وجدت بقاياها في أوروبا وأفريقيا وآسيا . ويتتبع عالم الآثار كل هذه المخلفات خلال حقب الزمن ويقارن بعضها بالبعض الآخر ويحدد عصورها تبعاً لتطور حياة الإنسان وتطور صناعته ، وينتقل في دراسته من العصور الحجرية المختلفة – القديم - والوسيط – الأعلى – الحديث – ثم يدخل معتمداً في هذا التقسيم على المادة التي كان يستخدمها إنسان هذه العصور وأدواته ، ثم هو يقسم تلك العصور ذاتها إلى حقب وفترات طبقاً للتطور في الأدوات و طرازها و أنماطها وزخارفها ، حتى إذا عرف الإنسان الكتابة حدد عالم الآثار بهذه المعرفة بدء العصر التاريخي ، وأعتبر ما قبل ذلك مرحلة مستقلة . ومع بداية العصر التاريخي , يلتقي علم الآثار بعلم التاريخ الذي يعتمد في كتابة التاريخ على الوثائق المدونة ، أما ما قبل ذلك فيعتمد في دراسته على ما يقدمه له علم الآثار الذي يشمل – كما ذكر – الماضي منذ بدأ ظهور الإنسان على الأرض . وإذا علمنا أن أول معرفة الإنسان للكتابة قد بدأت في وادي النيل وفي بلاد النهرين في القرن الثاني والثلاثين قبل الميلاد , نجد أن حقبة العصور التاريخية لا تعدو ستة آلاف سنة بينما يقدر عمر الإنسان على الأرض بنحو عشرة ملايين سنة , وهذا ما يميز علم الآثار عن غيره من العلوم ويجعله علماً مشوقاً لاتساع مجال بحثه ، بل أن علم الآثار قد أمتد في السنوات الأخيرة إلى الكشف عن الآثار الموجودة تحت الماء من حطام السفن الغارقة في البحار والمحيطات أو البقايا البشرية والحيوانية والمنشآت الأثرية التي غمرتها المياه . كما وامتد علم الآثار إلى أبعد من هذا حين شملت اهتمامه آثار الثورة الصناعية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من الآلات والصناعات التي استحدثها هذه الثورة خلال المائتي الماضية .
* وإذا كان علم التاريخ يعتمد على علم الآثار في معارفه عن عصور ما قبل التاريخ كما يستمد منه المعلومات عن آثار العصور التاريخية أيضاً وما يقدمه في هذا المجال من معلومات تاريخية وحضارية فإن العلمين يتفقان معاً في مناهج البحث إذ أن كلا منهما يعنى بجمع الحقائق وترتيبها وتصنيفها تحليلها وتفسيرها – ولكنهما يختلفان من حيث اعتماد المؤرخ على الوثائق المدونة بينما يعتمد عالم الآثار علة المادة التي خلفها الإنسان وتطورها ولالاتها خاصة فيما يخص عصور ما قبل التاريخ ، كما يعنى عالم الآثار بكل كبيرة وصغيرة مما يعثر عليه لأنه يجد فيها مادته التي يبني عليها معلوماته ويرتب استنتاجاته ، وقد أدى العثور على آثار مصرية محددة التاريخ بين آثار كريت المينوية ، نسبة إلى الملك مينوس الذي حكم مدينة كنوسوس إلى تاريخ هذه الآثار وتاريخ آثار أخرى مشابهة وجدت بعيدة عن قصر كنوسوس , بعدة أميال ، كما أدى العثور في تربة جافة بمدينة أور بالعراق على طبعة قيثارة من الخشب بليت تماماً إلى تشكيل تلك القيثارة التي ترجع لعصر حضارة سومر ومعرفة أدق أجزائها . أما المؤرخ فلا تعنيه دقائق الأشياء ، وإنما يعنى بالمسائل العامة التي تفيده في بناء التاريخ الذي يكتبه ، فلا يهتم بمعرفة التفاصيل المعمارية لقصر أو قلعة وإنما تهمه معرفة باني القصر أو القلعة مثلا ً .
* لم يكن هناك قبل عهد اليونان تاريخ بالمعنى المفهوم ، لأن كلمة تاريخ (History) تعني تحديد الزمن ووصف مجريات الحوادث الماضية فيه ، وقد أطلقت من ثم على العهد الثابت الذي يؤرخ به اليوم مثل التاريخ الميلادي أو التاريخ الهجري أو نحوهما ، ولم تظهر هذه الكلمة في اللغات الأوربية إلا بعد أن أطلق المؤرخ اليوناني الشهير هيردوت في القرن الخامس قبل الميلاد كلمة (Histora) وتعني باليونانية البحث والتحري عن أحداث الماضي وتسجيل هذه الأحداث وتحليلها ، وقد تطابقت الكلمة بهذا المفهوم مع ما ذكره المؤرخ العربي الشهير ابن خلدون بعد ذلك بكثير عندما عرف التاريخ في مقدمته على أنه بحث ونظر وتدقيق وتمحيص في أحداث الماضي ، ومن هنا فهو سجل لهذا الماضي يمكن من خلاله دراسة تطور الإنسان ، وما أحدثه في الحياة البشرية من منجزات حضارية ومادية أو روحية .
وعلى ذلك فإن العلاقة بين علم التاريخ والآثار لا تنحصر في أن المعرفة بحضارة الإنسان هي حصيلة تتراكم على مر الزمان ، ويساعد على الآثار على مدها بالمعلومات ، لأن المؤرخ لا يجابه هذا الماضي بمفرده مباشرة ، وإنما يجابهه عن طريق الآثار والنصوص التي خلفها هذا الإنسان ، وعلم الآثار هو العلم الذي يعتمد على جمع هذه المخلفات وتحليلها لاستكشاف حقيقة الماضي منها .
* إن الآثار والتاريخ صنوان فهما يبحثان في معرفة العصور الماضية لكنهما يختلفان في مصدر المعلومات والمنهجية والتقنية التي تقود إلى الحصول على المعلومة .فالمؤرخون يدرسون النصوص التاريخية بينما الآثاريون يضيفون إليها المادة الأثرية المحسوسة والملموسة .على أية حال ،فان الآثار هو مختبر التاريخ مجازيا فمثلا لولا حصول الحفريات الأثرية في موقع تل مرديخ (إبلا) بسوريا لما تعرف المؤرخون على مملكة إبلا والتي
قامت خلال النصف الثاني من الألف الثالث والألف الثاني قبل الميلاد ،إذا لم يأت على ذكرها أي تاريخي .
كذلك فان التاريخ يبدأ مع بداية الكتابة وهذه كانت في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد في بلاد الشرق الأدنى القديم والقرن الأول ميلادي ببريطانيا.هذا يعني أن فترات ما قبل التاريخ ،والتي بدأت قبل أكثر من مليون سنة في بلادنا لا تدخل ضمن اهتمام المؤرخين .كما إن الاثاريين يدرسون موضوعات متعددة لها علاقة بكثير من الأمور الإنسانية مثل كيفية المعيشة وبداية ظهور القرى والمدن وتكوين الدول . وهذا الأمر يفعله المؤرخون أيضا ولكنهم يعتمدون في استنتاج أرائهم على ما كتبه غيرهم بعكس الاثاريين الذين يعتمدون المادة الأثرية .ليس هذا فقط فإذا ما عملنا بان المؤرخ متحيز في بعض الأحيان لشخص يحبه أو فكرة في ذهنه فانه ينقل وجهة نظر التي يريد هو .ولنضرب مثالا هنا على ما حدث بعد الانتهاء من معركة قادش (حوالي 1260ق.م)والتي حدثت بين المصرين والحثيين سكان الأناضول إذ أننا نجد أن كلا منهما ادعى النصر لنفسه وهذا ما أشارت إليه نصوص المعاهدة المكتوبة والتي وجدت في كل من مصر وتركيا .وحار العلماء بأمر لمن كانت الغلبة حتى اتضح بان مملكة ماري (تل الحريري )كان قبل المعركة يدفع الجزية للمصرين أما بعدها فانه قد دفعها للحثيين .ويمكننا القول أيضا بان المؤرخ يؤرخ للطبقة الحاكمة في المجتمع ويسجل الأحداث العامة بينهما .
على أية حال .وبالرغم مما ذكر أعلاه فان الكتابات التاريخية تعين الآثاريين كثيرا في معرفة الماضي فهذا نقش الملك ميشع المؤابي المؤرخ لحوالي 850 قبل الميلاد يخبرنا بالأعمال العظيمة التي التي قام بها هذا ،بالإضافة إلى انه هزم الملك احاب بن عمري ملك إسرئيل كما أقام المدن.
المصدر مجلة الآثار