الــنــا س كــمــعـادن الأرض ..
لو تأملت في الناس لوجدت أن لهم طبائع كطبائع الأرض ..
فمنم الرفيق اللين .. ومنهم الصلب الخشن .. ومنهم الكريم كالأرض المنبتة الكريمة .. ومنهم البخيل كالأرض الجدباء التي لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً ..
إذن الناس أنواع ..
ولو تأملت لوجدت أنك عند تعاملك مع أنواع الأرض تراعي حال الأرض وطبيعتها ..
فطريقة مشيك على الأرض الصلبة .. تختلف عن طريقتك في المشي على الأرض اللينة .. فأنت حذر متأنِّ في الأولى .. بينما أنت مرتاح مطمئن في الثانية ..
وهكذا الناس ..
قال صلى الله عليه وسلم ( إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم :
الأحمر
والأبيض
والأسود
وبين ذلك
والسهل
والحزن
والخبيث
والطيب )
فعند تعاملك مع الناس انتبه إلى هذا – وانتبهي - سواء تعاملت مع :
قريب كأب وأم وزوجة وولد ..
أو بعيد كجار وزميل وبائع ..
ولعلك تلاحظ أن طبائع الناس تؤثر فيهم حتى عند اتخاذ قراراتهم ..
وحتى تتيقن ذلك .. اعمل هذه التجربة :
إذا وقعت بينك وبين زوجتك مشكلة .. فاستشر أحد زملائك ممن تعلم أنه صلب خشن .. قل له : زوجتي كثيرة المشاكل معي .. قليلة الاحترام لي .. فأشر عليَّ ..
كأني به سيقول : الحريم ما يصلح معهن إلا العين الحمراء !! دقَّ خشمها ! خل شخصيتك قوية عليها !! كن رجلاً !!
وبالتالي قد تثور أنت ويخرب عليك بيتك بهذه الكلمات ..
أكمل التجربة ..
اذهب إلى صديق آخر تعرف أنه هين لين لطيف .. وقل له ما قلت للأول ..
ستجد حتماً أنه يقول : يا أخي هذه أم عيالك .. وما فيه زواج يخلو من مشاكل .. اصبر عليها .. وحاول أن تتحملها .. وهذه مهما صار فهي زوجتك .. وشريكتك في الحياة ..
فانظر كيف صارت طبيعة الشخص تؤثر في آرائه وقراراته ..
لذلك نهى النبى (صلى الله عليه وسلم ) أن يقضي القاضي بين اثنين وهو عطشان ! أو جوعان ! أو حابس لبول أو غائط ! لأن هذه الأمور قد تغير نفسيته .. وبالتالي قد تؤثر عليه في اتخاذ قراره في الحكم ..
كان في الأمم السابقة رجل سفاح !! سفاح ؟! نعم سفاح .. لم يقتل رجلاً واحداً ولا اثنين .. ولا عشرة .. وإنما قتل تسعاً وتسعين نفساً ..
لا أدري كيف نجا من الناس وانتقامهم .. لعله كان مخيفاً جداً إلى درجة أنه لا أحد يجرؤ على الاقتراب منه .. أو أنه كان يتخفى في البراري والمغارات .. لا أدري بالضبط .. المهم أنه ارتكب 99 جريمة قتل !!
ثم حدثته نفسه بالتوبة .. فسأل عن أعلم أهل الأرض فدلوه على عابد في صومعته .. لا يكاد يفارق مصلاه .. يمضي وقته ما بين بكاء ودعاء .. هين لين عاطفته جياشة ..
دخل هذا الرجل على العابد .. وقف بين يديه ثم فجعه بقوله : أنا قتلت تسعاً وتسعين نفساً .. فهل لي من توبة ؟
هذا العابد .. أظنه لو قتل نملة من غير قصد لقضى بقية يومه باكياً متأسفاً .. فكيف سيكون جوابه لرجل قتل بيده 99 نفساً ..
انتفض العابد .. ولم يتخيل 99 جثة بين يديه يمثلها هذا الرجل الواقف أمامه ..
صاح العابد : لا .. ليس لك توبة .. ليس لك توبة ..
ولا تعجب أن يصدر هذا الجواب من عابد قليل العلم .. يحكم في الأمور بعاطفته ..
هذا القاتل لما سمع الجواب .. وهو الرجل الصلب الخشن .. غضب واحمرت عيناه .. وتناول سكينه ثم انهال طعناً في جسد العابد حتى مزقه .. ثم خرج ثائراً من الصومعة ..
ومضت الأيام .. فحدثته نفسه بالتوبة مرة أخرى ..
فسأل عن أعلم أهل الأرض .. فدله الناس على رجل عالم ..
مضى يمشي حتى دخل على العالم .. فلما وقف بين يديه فإذا به يرى رجلاً رزيناً يزينه وقار العلم والخشية ..
فأقبل القاتل إليه سائلاً بكل جرأة : إني قتلت مائة نفس !! فهل لي من توبة ؟!
فأجابه العالم فوراً : سبحاااان الله ..!! ومن يحول بينك وبين التوبة ؟!!
جواب رائع !! فعلاً من يحول بينه وبين التوبة ؟! فالخالق في السماء لا تستطيع أي قوة في العالم ان تحول بينك وبين الإنابة إليه والانكسار بين يديه ..
ثم قال العالم الذي كان يتخذ قراراته بناء على العلم والشرع .. لا بناء على طبيعته ومشاعره .. أو قل على عاطفته وأحاسيسه ..
قال العالم : لكنك بأرض سوء ..
عجباً ! كيف علم ؟ عرف ذلك بناء على كبر الجرائم وقلة الـمُدافع له الـمُنكِر عليه .. فعلم أن البلد أصلاً ينتشر فيها القتل والظلم إلى درجة أنه لا أحد ينتصر للمظلوم ..
قال : إنك بأرض سوء .. فاذهب إلى بلد كذا وكذا فإن بها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم ..
ذهب الرجل يمشي تائباً منيباً .. فمات قبل أن يصل إلى البلد المقصود ..
نزلت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ..
فأما ملائكة الرحمة فقالت : أقبل تائباً منيباً ..
وأما ملائكة العذاب فقالت : لم يعمل خيراً قط ..
فبعث الله إليهم ملكاً في صورة رجل ليحكم بينهم .. فكان الحكم أن يقيسوا ما بين البلدين .. بلد الطاعة وبلد المعصية .. فإلى أيتهما كان أقرب .ز فإنه لها ..
وأوحى الله تعالى إلى بلد الرحمة أن تقاربي .. وإلى بلد المعصية أن تباعدي .. فكان أقرب إلى بلد الطاعة فأخذته ملائكة الرحمة ..
حتى المفتين في المسائل الشرعية تجد مع الأسف أن بعضهم تغلبه عاطفته أحياناً ..
أذكر أن أحد جيراني كان كثير الخلافات مع زوجته ..
اشتد الخلاف يوماً فطلقها تطليقه .. ثم راجعها ..
ثم اشتد أخرى .. فطلقها ثانية .. ثم راجعها ..
وكنت كلما قابلته أحذره وأوصيه .. وأذكره بأبنائه الصغار .. وأهمية اعتبارهم والعناية بهم .. وأكرر عليه :
لم يبق لك إلا طلقة واحدة – الثالثة – فإن أوقعتها لم تحل لك مراجعتها إلا بعد زواجها من آخر وتطليقه لها .. فاتق الله .. ولا تخرب بيتك ..
حتى جاءني يوماً متغير الوجه وقال : يا شيخ تخاصمنا وطلقتها الثالثة !!
وهذا الكلام منه ليس غريباً .. إنما الغريب أنه قال بعدها : ما تعرف لي شيخاً حبيباً يفتيني الآن أراجعها !!
فعجبت منه .. ثم تأملت في الحال فاكتشفت ما تقرر قبل قليل أن كثيراً من الناس تختلف آراؤهم – وربما اختياراتهم الفقهية – تأثراً بعاطفته وطبيعته ..
وبعض الناس تعلم من طبيعته أنه شديد الحب للمال .. فلا تعجب إذا رأيته يذل نفسه لأرباب الأموال .. يهمل أولاده وبيته لأجل جمعه .. يقتر على من يعول .. لا تعجب فهو طماع .. بل إن اتخاذه لقراراته وتبنيه لقناعاته ينبني كثيراً على هذه الطبيعة .. فإذا أردت أن تتعامل معه أو تطلب منه شيئاً فضع في نفسك قبل أن تتكلم أنه محب للمال .. فحاول أن لا تعارض هذه الطبيعة فيه حتى تحصل على ما تريد منه ..
ولأن الأمثلة مفاتيح الفهوم .. خذ مثالاً :
نفرض أنك زرت مستشفى وقابلت مصادفة صديقاً قديماً كان زميلاً لك أيام الجامعة .. فدعوته إلى وليمة غداء في بيتك .. فوافق ..
فذهبت إلى السوق واشتريت حاجات ثم رجعت إلى البيت لتستعد وجعلت تتصل بعدد من زملائكم السابقين تدعوهم لمشاركتكم الوليمة ورؤية صاحبك .. من بين هؤلاء صديق - من البخلاء الذين استولى حب المال على قلوبهم - اتصلت به فرحب وحيَّا .. فلما أخبرته عن الوليمة .. قال : آآه .. يا ليتني أستطيع الحضور ورؤية فلان .. لكني مرتبط بشغل هااام .. فبلغه سلامي .. ولعلي أراه في وقت آخر ..
فأدركت أنت من معرفتك بطبيعته أنه يخشى أن يجيء .. فيضطر إلى أن يدعو الضيف إلى بيته ويصنع له وليمة تكلفه مبلغاً وقدره .. !! وهو يريد التوفير ..
فقلت له : عموماً هذا الضيف لن يبقى في البلد سيسافر بعد الغداء مباشرة .. فقال : .. إذن سأؤجل شغلي وآتي لرؤيته !!
وبعض من تخالطهم من الناس يكون اجتماعياً أسرياً .. يحب أسرته .. لا يصبر على فراقهم .. اطلب منه أي شيء إلا أن يبتعد عن أولاده بسفر أو نحوه .. فلا تكلفه ما لا يطيق ..
إلى غير ذلك من طبائع الناس ..
يعجبني بعض الناس الذي يملك فن اصطياد جميع القلوب ..
فإذا سافر مع بخلاء اقتصد حتى لا يحرجهم فأحبوه ..
وإن جالس عاطفيين زاد من نسبة عاطفته فأحبوه ..
وإن مشى مع فكاهيين مرحين ضحك ومزح وجاملهم فأحبوه ..
يلبس لكل حالة لبوسها .. إما نعيمها وإما بؤسها ..
وعُد بذاكرتك قليلاً معي .. وانظر إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) وقد أقبل بالكتائب لفتح مكة ..
كان أبو سفيان قد خرج إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم )قبل أن يدخل مكة .. فأسلم ..
في قصة طويلة .. الشاهد منها أنه لما أسلم قال العباس :
يا رسول الله .. إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً ..
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) نعم .. من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ..
ومن أغلق عليه بابه فهو آمن .. ومن دخل المسجد فهو آمن ..
فلما ذهب أبو سفيان لينصرف إلى مكة ..
نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فإذا هو الذي استنفر قريشاً لحربه في بدر ..
واستنفرها لحربه في أحد ..
ثم استنفرها لحربه في الخندق ..
وإذا رجل قائد .. قد طحنته الحرب وطحنها ..
وإذا هو حديث عهد بإسلام ..
فأراد رسول الله (صلى الله عليه وسلم )أن يريه قوة الإسلام ..
فقال (صلى الله عليه وسلم ) يا عباس ..
قال : لبيك يا رسول الله ..صلى الله عليه وسلم
قال : احبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها ..
أي أوقفه على طريق الجيش وهو يدخل مكة ..
فخرج العباس بأبي سفيان .. حتى وقف معه بمضيق الوادي .. حيث تتدفق الكتائب كالسيل إلى مكة ..
وجعلت الكتائب تمر عليه براياتها .. فلما مرت الكتيبة الأولى قال : يا عباس من هؤلاء ؟
قال العباس : سليم ..
قال : مالي ولسليم ..!!
ثم مرت به الثانية ..
قال : يا عباس من هؤلاء ؟
قال : مزينة ..
قال : مالي ولمزينة ..!!
حتى نفدت الكتائب .. وهو ما تمر كتيبة إلا سأل العباس عنها ..
فإذا أخبره .. قال : مالي ولبني فلان ..
حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم )في كتيبته الخضراء .. وفيها المهاجرون والأنصار .. قد غطوا أجسادهم بالحديد .. فلا يرى منهم إلا عيونهم ..
فقال : سبحان الله يا عباس ! من هؤلاء ؟
فقال العباس : هذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم )في المهاجرين والأنصار ..
قال : هذا الموت الأحمر .. والله ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة ..
ثم قال : والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً !
قال العباس : يا أبا سفيان .. إنها النبوة ..
فقال أبو سفيان : فنعم إذن ..
فلما تجاوزتهم الخيل .. صاح به العباس .. النجاءَ إلى قومك ..
فمضى أبو سفيان سريعاً إلى مكة ..
وجعل يصرخ بأعلى صوته :
يا معشر قريش .. هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به .. فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ..
قالوا : قاتلك الله ! وما تغني عنا دارك ؟
قال : ومن أغلق عليه بابه فهو آمن .. ومن دخل المسجد فهو آمن ..
فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد ..
فا لله در نبيه (صلى الله عليه وسلم )كيف أثر في نفس أبي سفيان بما يصلح له ..
ومما يحسن ههنا .. أن تعرف طبيعة الشخص ونفسيته قبل أن تتكلم معه .. فإن معرفة طبيعته .. وماذا يناسبه .. يفيدك عند التعامل أو الكلام معه