د. محمد هيشور
للخوض في موضوع السنن من خلال القرآن الكريم وما يتعلق بها من قضايا فكرية يتوجب توضيح بعض خصائص السنة وهي أن سنة الله وحدة كلية مرتبطة بعضها ببعض أشد الارتباط فالنظم الاقتصادية والنظم الاجتماعية والسياسية والتربوية وغيرها كلها نظم جزئية أو أحداث صغرى داخل العملية أو النظام الحضاري والدائرة الكبرى، كما أن هذه الجزئيات ليست منعزلة التأثير بعضها في بعض، بل هي كالجسد الواحد. وأساسها ومحورها الإنسان وروحها العدل ولذا تقرر على الأمم الواعية والشعوب المستنيرة أن تراعي حركة التاريخ وأثر كل العوامل الموجودة حتى تكون ضمن السنن المرسومة، والسنن الجارية في طريقها تؤكدها تجارب وأحداث الزمان علمت الأمم هذا أم جهلته، وفي التاريخ عبر لأولي الألباب.
وإن كانت قضية السنن في القرآن تحتاج إلى تفسير خاص للقرآن يجلي مفهومها ويوضح حقائقها ومكنونها كما دعا إلى ذلك الأستاذ المرحوم محمد صادق عرجون. فإني أحسب أن هذه الدراسة من الخطوات الأولى في هذا الطريق ونزر من يسير في هذا الموضوع. والبناء العظيم أساسه ذر الرمال والتراب. والله تعالى يقول: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق). فما زلنا ننتظر من ذوي العلم ليرونا آيات ربنا في الأنفس والأفاق، وأن الإشارات التي تضمنها القرآن إلى سنن الله تستوجب على المسلمين أن يجعلوا من السنن علما من العلوم القرآنية تختص فيه طائفة من كل فرقة من أبناء الأمة الإسلامية لتبين للإنسانية التي كذب كثير منها بما لم يعلموا كما قال تعالى عن المشركين المكذبين لرسول الله (ص)بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) أي بما لم يدركه علمهم ولم يعرفوا عاقبته في القرآن.
وبقيت سنن الله من سار عليها من البشرية في أي جانب من جوانب الحياة فاز وظفر وإن كان ملحداً أو وثنياً مشركاً ومن حاد عنها خسر وإن كان مؤمناً موحداً، وعلى هذه القاعدة يفسر انحطاط المسلمين وتقدم غيرهم. ولذلك فالمسلمون أجدر الأمم بمعرفة هذه السنن لأنهم أجدر الأمم بقيادة الإنسانية لما لهم من معارف عن الخالق والخلق حواها القرآن، ولتجربتهم التاريخية في القيادة حيث سادت حضارتهم وهيمنت على الدنيا ما يزيد عن إحدى عشر قرناً فما اشتكى من ظلمهم عدو ولا صديق بحق ويفهم من سنن الله أن صاحب الحق ينتصر ويرث الأرض إن عمل وصبر طال الزمن أم قصر. وأن أهل الباطل يتنحون عن قيادة الأمم وإن سادوا و ينهزمون طال الزمن أم قصر ولله عاقبة الأمور.
ولذلك تتكرر الدعوة في القرآن الكريم إلى السير في الأرض لاستقراء ما حل بالأمم الخالية والحضارات الغابرة.. ليحصل العلم الصحيح القائم على المشاهدة والتجربة. ولا شك أن الاكتشافات التي توصل إليها أبناء الإسلام من العلماء والمفكرين كانت وليدة قراءة القرآن وتدبر معانيه وفهم أسرار لغته ومعرفة مقاصده العلمية والتشريعية.. إلا أن هناك فرقاً أريد أن أوضحه بين القوانين العلمية والسنن التاريخية والاجتماعية والنفسية هو أن الأولى حتمية الوقوع أما الثانية فليست كذلك. ولقد سلك ابن خلدون في دراسته التاريخية والحضارية ثلاث طرق: طريقة الوصف، وطريقة الدعوة إلى المبادئ والقيم التي ينبغي أن يكون عليها المجتمع كما فعل أفلاطون في جمهوريته، والفارابي في مدينته الفاضلة.. وطريقة التحليل وكشف العوامل المؤثرة في المجتمعات. وسنن حركة التاريخ وتبدل الدول وتداول الحضارات بين الأمم.
ولقد كان ابن خلدون كشأن علماء الإسلام ومفكريه الذين انطلقوا في تصوراتهم لمناهج الحياة العلمية والعملية من القرآن وسارت حركة التحضر وحياة المسلمين كلها في ظل القرآن دهراً طويلاً إلى يوم دب إلى كيانهم النفسي والاجتماعي والسلوكي داء الفساد والسقم فتخلوا عن تلك المناهج التي أقاموها حول القرآن واستنبطوا أسسها من معانيه. كما هو منهج التوثيق ودراسة الحديث النبوي والتشريع والتحكيم القضائي قائما على معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين).
إلا أنه يبدو أن مستوى المسلمين في مجال العلوم الشرعية والدراسات الإنسانية اللغوية والفلسفية الكلامية، لم يكن مساوياً أو مقارباً لمستواهم في ميدان العلوم المادية والكونية حيث لم يعرف المسلمون بتفوق في هذا الميدان قدر معرفتهم بمستواهم العلمي القوي في مجال العلوم الإنسانية، لعل التفوق الفكري والعلمي في مجال العلوم المجردة اللا مادية يحتاج إلى عقل أقوى ويتطلب جهداً أكبر لكون العلوم الإنسانية لا تقوم في مجال المحسوسات ولا تدخل في إطار الإحاطة والتجربة العلمية الملموسة.
ويبدو كذلك أن المسلمين قد عرفوا نقصاً في المعرفة بسنن حركة التاريخ والحضارة وإن عايشوا هذه السنن ومارسوها عملياً. ولذلك لم تظهر الاهتمامات بحقيقة السنن كأبحاث ونظريات إلا في عصور متأخرة بدأت فيها نجوم الحضارة الإسلامية تغيب كما هو معروف في حياة ابن خلدون الذي كان آخر مصباح اتقد فأنار تلك الفترة الأخيرة من العصور الذهبية للأمة الإسلامية. وكان آخر ومضة تألقت في تلك الحقبة التاريخية.
وحتى مع ظهور هذه الومضات الفكرية العلمية بقي فقه المسلمين لسنن الحياة متخلفاً لا يتجاوب مع التكثيف القرآني لقصص الأمم البائدة.
ولقد ألهى انشغال علماء الإسلام وفقهائه نظريات كلامية تسربت إليهم من خلال الفلسفة اليونانية . وافتراضات فقهية وخيالات صوفية أثارتها عقول ظالمة وانتمت إلى الإسلام بحق أو بغير حق. فاهتم المسلمون بهذه القضايا وأمثالها مما يأتي في آخر درجة في سلم الأولويات فكان كل هذا وغيره على حساب فقه سنن التاريخ والحضارات. وكانت هذه عوامل أقعدت حركة الإبداع عن التقدم والازدهار في الحياة الإسلامية، كما ما زالت عوامل في عصرنا الحديث تصد المسلمين عن فقه سنن الحياة واستيعابها بالقدر الذي يخرج الأمة من الانحطاط الحضاري الذي تعيش فيه منذ قرون ومنها أن كل صاحب تخصص يرى العلوم والمعارف والحياة كلها في تخصصه ودون أن يربط تخصصه بالسنن التي تحكم الأمم نفسياً واجتماعياً واقتصادياً.. وحتى تلك السنن والقوانين المتعلقة بالأمم السابقة الوارد ذكرها في القرآن قد عولجت بهذا المنطق ودرست أو فسرت مجردة عن بقية العلوم والمعارف الأخرى وبمعزل عن الحياة العامة للناس.
وتنبه الفكر الغربي في مطلع القرون الحالية إلى قضية السنن أو بمعنى آخر أدق تنبه إلى اكتشاف القوانين العلمية في ميدان المادة. وذلك نتيجة لعدة عوامل لعل من أهمها أثر الحضارة الإسلامية والتخلص من قبضة الكنيسة وسيطرتها واكتساب قدر كبير من الحرية، ثم انطلق العلماء الغربيون بفضل هذه العوامل وغيرها إلى دراسة الظواهر المادية أكثر من غيرها وركزوا على آثار الأشياء في الحياة دون البحث في ذاتها وأسباب وجودها ومحاولة تعريفها تعريفاً فلسفياً نظرياً، ثم نشطت الأبحاث والدراسات حول حركة التاريخ وتغيير المجتمعات وتبدل الدول والحكومات بتأثير الفكر الخلدوني.
فظهرت اتجاهات كثيرة وبرزت مذاهب فكرية عديدة في الغرب ما زالت حتى اليوم محل اهتمام من أبناء الشرق والغرب نفسه.
وبقى القرآن المصدر والمرجع الموجه الذي يعول عليه في بحث أحوال الإنسانية الحضارية مادياً ومعنوياً لكونه وحي يوحى.
ومحور السنة في القرآن وفي القضية الحضارية هو النفس الإنسانية ومن الظلم أن يتجاهل الفكر الإنساني العلاقة التأثيرية بين النفس الإنسانية والواقع الحياتي لها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وآيات الله مبثوثة في الأنفس والآفاق.
وما اكتشفه العقل الإنساني إلى اليوم بالنسبة إلى ما لم يكتشفه من أسرار المادة والروح في هذا الوجود أحسب أنه نزر من يسير وقليل من كثير وهو أمر لا يكاد يقام له وزن، كجزيرة صغيرة في وسط محيط ضخم لا ترى له حدود وصدق الله حين يقول: (وما أوتيم من العلم إلا قليلاً).
وسنن التاريخ والحضارة هي تلك الضوابط أو القوانين التي تتحكم في عملية التحضر. ولقد أكد القرآن الكريم أن الساحة التاريخية والاجتماعية للأمم لها سنن وضوابط مثل سائر الساحات الكونية الأخرى الفيزيائية والكيميائية والفلكية والحيوانية والنباتية...
والمقصود بالساحة التاريخية الساحة التي تحتوي تلك الحوادث والقضايا التي يهتم بها المؤرخون. وكل ساحة من ساحات الموجودات في الكون محكومة بسنن. ومن تتبع الآيات القرآنية نجد أن القرآن عندما جعل للقضايا الإنسانية وللأشياء المادية سننها وضوابطها. فإنه قاوم بذلك النظرة القومية العشوائية للحياة الإنسانية التاريخية والاجتماعية.
وان الحديث عن السنة الربانية في القرآن عن الإنسان باعتباره محور التغيرات في الحياة ومسئول عن بعض ما يجري فيها، وما يحدث من أسباب وعوامل تؤدي وفق سنن الوجود إلى أهداف ونتائج في حياة الأمم. وبهذا المفهوم تظهر السنن فاعلة في حياة الناس وتقلباتهم الحضارية من خلال النفس الإنسانية. ومرتبطة أشد الارتباط بالإنسان في استقامته بالاعتقاد السليم. والعمل الصالح والقول السديد والسلوك الفاضل حين يظهر الإصلاح في الأرض ويقدر الاستخلاف فيها بالاستعمار ومرتبطة بالإنسان في انحرافه العقيدي، وفسوقه الأخلاقي، وفساد أعماله وأقواله وخروجه عن سنن التحضر والحياة الصحيحة. وحينئذ يظهر هذا الإنسان الفساد في الأرض فتؤل الحضارات إلى الدمار والمجتمعات إلى البوار والانحلال. وكل يجري إلى أجل مسمى وفق سنن الله في الوجود التي لا تحيد ولا تميل عن خطها وبهذه الدوافع جاءت الدعوة في القرآن للسير في الأرض لمعرفة سنن الله، في السابقين، وإدراك عواقبهم في الإصلاح والعدل، وفي حالات الفساد والظلم ومن سمة السنن أنها ثابتة لا تتغير بعوامل الزمان والمكان ومن هذا قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين).
والتفكير الإنساني لا يدعو إلى ربط الأحداث اليومية العالمية النفسية والاجتماعية بالسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة لأن هذه فكرة بعيدة عن الإنسان لبعده عن الله ولم تنبع من بيئة اجتماعية أو ثقافية ينتمي إليها. ولهذا لم يهتد الإنسان إلى إثبات السنن الربانية في الوجود المقترنة بالمشيئة الإلهية المطلقة.. وأنه إلى الله تصير الأمور، فتكون الحركة التاريخية والاجتماعية والقدرة البشرية والإرادة الربانية في توازن بين السنن العادية وطلاقة المشيئة الإلهية وهذه حقيقة ثابتة في سير الحياة منذ الخليقة الأولى، ولعل هذه من العبر المقصود اكتشافها من السير في الأرض في قوله تعالى: (فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين). وفي معرفة سنن الله من السير في الأرض ما يطمئن القلوب المؤمنة أن العاقبة لها. وما يحذر من الانزلاق مع المكذبين والأرض والتاريخ كله مسرح لنشاط البشرية. وعلى أثر معرفة هذه السنن يتجاوب الناس مع نداء الحق فيدركون النتيجة.
(قد خلت من قبلكم سنن) ، أي مضت قوانين إلهية مما سنه الله من السنن التي تجري على خلقه وبإرادته وقدرته ومنها ما هو خاص بالأنبياء والمرسلين ومنها ما هو خاص بالمؤمنين وما هو عام في شئون الأمم وتقلباتهم نحو الوحدة والتفكك والتحضر والتخلف والسعادة والشقاء.. وهذه حقائق واردة في الكتاب لا يعرفها إلا عالم به ومن اكتشفها استطاع أن يعرف الحاضر ويتحسس المستقبل ومن سننه تعالى أن جعل العاقبة للمتقين وجعل النهاية تدور على المكذبين الظالمين.. ولهذا قال تعالى: (سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) أي نهايتهم وهي العذاب والهلاك، والفوز والتمكين للمتقين وفي قوله تعالى: (هذا بيان للناس). أي هذا القرآن فيه توضيح وتوجيه في كل ما تحتاجه الإنسانية.
ومن صريح الآية (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) ، أن هذه سنة عامة لا تتعلق بعقيدة أو جنس، ولكن الموعظة والاهتداء بها خاصة بأهل التقوى لأنهم هم الذين يعملون حواسهم ويشغلون عقولهم في التماس سنن الله في الحياة باجتناب المحارم والتزام الاستقامة وهي طاعة الله.
وقال تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم).
يريد الله أن يكشف لكم أيها الناس في كل زمان ومكان عن حكمته في الأولين، ومع الآخرين ويبين لكم منهج الاستقامة حتى يعينكم على تجنب المزالق وعلى التسامي في الرقي الحضاري معنويا ومادياً. وأوضحت الآية السابقة إرادة الله ومشيئته في بيان سنن البناء النفسي والتنظيم الاجتماعي.. أما ما يريده الذين يتبعون الشهوات هو أن تطلق الغرائز من كل عقال أخلاقي، وعرف اجتماعي أو قانوني، ولو كان هذا لتحولت الحياة إلى فوضى تسوقها الرغبة البهيمية.
ويريد الله أن يهديكم إلى ما شرع لكم من الأحكام والآداب الموافقة لمصالحكم المحتوية لمنافعكم وتلك سنته تعالى في الذين أنعم عليهم من الأمم السابقة.
كما يريد سبحانه أن يبين لكم ما خفي عنكم من مصالحكم وأفضل أعمالكم (يهديكم سنن الذين من قبلكم). أي مناهج وطرق حياة من كان قبلكم من الأنبياء والأمم الصالحة العادلة الذين سلكوا المنهج القويم منهج التوازن الذي به تسعد الأمم ويقوى ملكها. وعليه تبنى الحضارات وتزدهر. (ويتوب عليكم) ، أي يوفقكم للتوبة وهي مراجعة النفس والاعتراف بالذنب والخطأ أو النقد الذاتي بالتعبير الاجتماعي الحديث، وتوبة الأمم كتوبة الأفراد تبدأ بترك الآثام والإجرام والندم على ما ارتكبت من الأخطاء في سالف الزمان. ورد المظالم إلى أهلها، وهذا هو العدل والتوازن (والله عليم حكيم) ، عليم بمصالح الخلق حكيم عادل فيما شرع وأحكم وأجرى من قوانين وسنن.
وخاطب الله تعالى المؤمنين لبيان سنته سبحانه في نصر المؤمنين وهزيمة الكافرين فقال تعالى: (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
وردت سنة الله هنا في موضع المصدر المؤكد أي سنّ الله غلبة أنبيائه سنة وهي قوله تعالى: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي).
وكان المسلمون يعرفون أن نصرهم وهزيمة أعدائهم يجري وفق سنة عادية تبذل فيها الجهود العظيمة. ويستعمل العقل قواه بالتفكير والتدبير فلم يتقاعسوا أو يتواكلوا بل بذلوا النفس والنفيس من أجل نيل نصر الله وإلحاق الهزيمة بأعدائه. وإذا أراد الله إحقاق الحق وإبطال الباطل هيأ لذلك أسباباً تتعلق بمشيئة الإنسان نفسه فينشىء الله في نفوس أهل النصر عوامله. ويوجد في أهل الهزيمة أسبابها النفسية والاقتصادية كالذي نجده بالنسبة لليهود في قوله تعالى (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار).
ومن عادة الأمم الضالة إنكار أعمال الرسل وسلوكهم في الحياة مع أن أعمال الرسل وحي من الله مقدراً ومفروضاً عليهم قال تعالى: (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً).
ورد لفظ السنة في هذه الآية موضوعاً موضع المصدر، أي سنة الله ألا يخرجوا الأنبياء ويخرجوا في الإقدام على ما أباح الله لهم ووسع عليهم سواء في باب النكاح كما ورد في الآية أو في غيره.
فكانت الآية اقرار مبدأ وحكم وازالة عنصر غريب في الفهم اعترى عقول المؤمنين حين رد الله أمر الزواج بنساء الأدعياء إلى أصوله الأولى وأبطل عادة الجاهلين العرب وهي تحريم الزواج بنساء الأدعياء. وليس موقف النبي عليه الصلاة والسلام هذا جديداً ولا بدعاً في الأمر بل قد مضت سنة الله في الأولين من المؤمنين في إباحة الزواج بنساء الأدعياء والإنسانية كلها أمة واحدة وسنة الله فيها واحدة. ولقد كان الأمر أو الحكم موقوفاً على إحانة الوقت المناسب لإقراره وبيانه رغم استحياء النبي عليه الصلاة والسلام من بيانه.
ومن سنة الله في الأولين من أهل الكفر والجحود والعتو والاستكبار حين يأتي أمر بالطاعة والتزام الحق شرعة ومنهاجاً مع تمنيهم إياه قبل المجىء قال تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من احدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً. استكباراً في الأرض ومكر السيىء ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً).
والمراد بسنة الأولين في هذه الآيات هي إنزال العذاب على الذين كذبوا الرسل من الأمم وجعل استقبالهم للرسل انتظاراً منهم للعذاب وبين سبحانه أن سنته في هؤلاء المكذبين هي الانتقام الذي هو سنة لا يبدلها ولا يغيرها، واستشهد الله كفار مكة.. وهم المقصودين في الآيات علي وجه التخصيص بما كانوا يشاهدونه في مسايرهم ومتاجرهم في رحيلهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار الماضين وعلامات هلاكهم ودمارهم.
وتحمل هذه الآية جولة من جولات القرآن في تاريخ الأمم الخالية وتكشف عن حالات من الحالات النفسية التي عاشتها تلك الأمم وما زالت تعيشها أمم أخرى معاصرة وتسايرها في طريقة تقبل دعوات الحق واستقبال أو معاملة أهله. ومن أولئك العرب الذين كانوا يعرفون أهل الكتب المجاورين لهم في الجزيرة العربية وانحرفوا وأعرضوا عن الحق لا عن جهل وعدم اقناع إنما عن استكبار وبطر للحق.
وقد كانوا يقسمون بالله لئن جاءهم نذير أي رسول ليكونوا أهدى من إحدى الأمم ويعنون بذلك أمة اليهود الذين هم أقرب أمة في التاريخ لجاهلية العرب. وإنه لقبيح بمن كانوا يقسمون جهد إيمانهم أن يكون موقفهم الاستكبار والتكذيب بالنذر وهي سنة الاستدراج التي حذر من عواقبها الأنبياء وأولوا العلم ويتكرر موقف اليهود نفسه. ولا تمضي سنة الله جزافاً دون سابق انذار ولا سير إلى تحقيق غايات وأهداف وهي من صنع يد البشر، بل لابد أن تتحقق وتنفذ ولا ترد حتى يدركها الناس ولا يعيشون الحياة غافلين عن هذه السنن حاصرين أنظارهم في فترة قصيرة من الزمان وحيز محدود من المكان، وترفع الآيات القرآنية تصور البشر لإدراك ارتباطات مفردات الحياة ومكوناتها بسنن الوجود كله وليعرف الإنسان أيضاً ما لحق بالأجيال السابقة وما حل بالأمم الخالية الذاهبة وما نزل بها من عذاب. وكيف توارت وراء الوجود وصارت إلى العدم المادي أو المعنوي، ثم يعيد النص القرآني الذهن البشري إلى تلك الحقيقة الكبرى في السنن وهي أنها لا تتحول ولا تتبدل سنة الله (ولن تجد لسنة الله تبديلاً).
وقال تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين).
هذه سنة في الكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم في الأمم فدمروا، فليتوقع ذلك كفار قريش وقد حاق بهم يوم بدر جزء من مكرهم، وقيل معنى الآية أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر الله لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي.
والآية خطاب للذين كفروا في كل عصر ومصر والمعنى أن الفرصة أمام أهل الكفر سانحة لينتهوا عما هم فيه من تجمع وتحزب لمحاربة أهل الحق والإيمان وفي الآية ما يشبه الإنذار والوعيد. والنذر سنة من سنن الله تسبق التعذيب والهلاك وتأتي بعد التبليغ والنصح.
فما شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر فالأمر على سبيل الخيار فلا جبر ولا قهر لا على الكفر والعصيان. ولا على الإيمان والطاعة. وللكفار أن يفعلوا ما أمروا به ويلتزموا منهج الحق ويتركوا الصد عن سبيل الله والاعتقاد بالباطل والسلوك الخاطىء وإلا فسنة الله ماضية أي سائرة في الأولين والآخرين. وهي إنزال العقاب واحلال الدمار بأهله ومستحقيه.
والله تعالى يقول: (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين).
يخبرنا الله عز وجل أن رسوله محمد (ص) ليس هو بدعا من الرسل الذين لقوا الاستهزاء والسخرية والمعارضة من المجرمين والمتكبرين وغيرهم من طوائف الباطل. ولكن هذه سنة معروفة وموقف متكرر في الرسالات وهي ظاهرة من الظواهر المرضية في هؤلاء المنحرفين والمفسدين الذين واجهوا أهل الحق. ولا ينقصهم الدليل والبرهان ولكنه العناد والتكبر الصادر عن الأمراض النفسية المانع من اتباع الحق والتزام الطاعة طريقة ومنهجا في الحياة.
وكثير ما يكون أهل الجهل أقوى من غيرهم في التمسك بباطلهم حتى ولو علموا ما صار إليه نظراؤهم وأقرانهم السابقون، لأن الجهل يعمى عن رؤية الحق. ولقد شهد التاريخ بوجود هذه الظواهر والحالات في الأمم الماضية وظهرت آثارها في حقب التاريخ التالية فكانت عوامل هدم وتخريب وأسباب تدهور وانحطاط حرمت أمما من نيل رضا الله. والوصول إلى السعادة في الدنيا والآخرة. فسنة الله جارية ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان وكل المعاصرين سيتحولون يوما إلى أولين وكل جديد سيصبح قديما ومن الأخطاء الفادحة أن يتحول تاريخ الأمم إلى أحداث ووقائع متراكمة ومتكدسة دون استفادة واستقراء.
وعن سنة الله في المشركين قال تعالى: (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجونك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلاً، سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا).
يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم فسنة الله أن يهلكهم ونصبت السنة نصب المصدر المؤكد أي سنَّ الله ذلك سنة ثابتة. والآية تجيبنا عن سؤال وهو كيف أمهل الله أهل مكة ولم يهلكهم رغم تكذيبهم وعنادهم؟ والجواب أن السبب واحد وهو وجود رسول الله بينهم ولو خرج لحل بهم الهلاك والدمار وفق هذه السنة. ولقد حاول المشركون استدراج رسول الله إلى الخروج وعندما عجزوا عن تحقيق غايتهم رجعوا إلى الاستفزاز والتهديد والوعيد وغيره من الأساليب لكي يتخلى عن الدعوة إلى الله، ولو خرج عليه الصلاة والسلام عنوة وقهراً دون وحي من الله لحل بهم الدمار وهلاك الاستئصال والابادة (إذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً) لأن إخراج الرسل كبيرة تستحق الانتقام المادي المباشر والكون تدبره سنة الله المطردة التي لا تتحول أمام أي اعتبار فردي أو جماعي أو نسب أو غيره.
وخرج رسول الله (ص) بأمر ربه لحكمة تشريعية _من مكة إلى المدينة وكلاهما بلاد العرب ولهذا لم يستأصلهم الله بالهلاك وإنما أهلك كبارهم وسادتهم من رؤوس الشرك يوم بدر وعن سنته سبحانه في المنافقين والمرجفين قال تعالى: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً. ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً. سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً)
ونبصر في الآية وعيد الله للمنافقين والمرجفين ذوي القلوب المريضة والأخلاق الدنيئة الذين ينشرون الشائعات والأباطيل في صف الحق وفي أوساط المجتمعات. وهؤلاء مرجفي المدينة المنورة إن لم ينتهوا عن أعمالهم وسعيهم هذا فإن الله يسلط عليهم من يشاء من عباده وخلقه ليسومهم سوء العذاب، كما سلط على من سبقهم في التاريخ وإلى السعي في الأرض بالبغي والفساد كبني اسرائيل وغيرهم من الأمم المنحرفة وحقق الله هذه السنة في اليهود حين أخرجهم من المدينة وطهرت من كيدهم ورجسهم وطردوا من مساكنهم ومزارعهم وأبيحت دماؤهم وخربت بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين عبرة لأولي الأبصار، وقتلوا تقتيلاً. وهذه سنة ثابتة في الذين مضوا من قبل عرفتها الأمم بمعرفتها لتاريخ أسلافها ولن تجد لسنة الله تبديلاً. والآية تقرر هذه السنة وتبين أن المرجفين هم مروجوا الدعايات الإعلامية المضللة والسياسات الكاذبة. ومعنى قوله تعالى: (لنغرينك بهم)، أي لنأمرنك يا محمد (ص) بقتال هؤلاء المرجفين ولنسلطنك عليهم.
وقال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كانت عاقبة الذين من قبلهم. كانوا أكثر منهم وأشدَّ قوة وآثاراً في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون. فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون. فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين. فلم يك ينفعهم ايمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون). في هذه الآيات حديث عن مصارع الغابرين من الأمم التي بعضها ما تزال لها آثار باقية تحكي قصتها وإنجازاتها الحضارية في النقوش والمتاحف وبعضها الآخر حوته الكتب والروايات، وفي القرآن الكريم دعوات توجه العقول إلى التأمل والسير في الأرض للكشف عن دلائل الوجود ومعرفة حقائق التاريخ وسنن الله في الخلق والقرآن وتخاطب النفس البشرية في أنقى حالاتها وأطهر طبيعتها وفطرتها، وهنا جاءت الآية تصوب رأي الذين يرون الكثرة والقوة المادية من أسباب التحضر وعوامل الصمود والثبات أمام عاديات الزمن والدهر. فهؤلاء المخبر عنهم قد أصبحوا قصصاً تحكي وأخباراً تروى رغم قوتهم المادية. وأثبتت التجارب التاريخية أن هذه العوامل عادة هي عوامل غرور وزهو بباطل إن لم تكن أسباب شقاء وتعاسة لكثير من الأمم. وظاهر نص الآية أن الخطاب كان لقريش ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوصية المناسبة _فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون _ عندما حل بهم بأس الله، لأن هذه العوامل مع التكذيب والاستهزاء والتكبر وعدم الإيمان والطاعة والإستقامة على طريقة الرسل عوامل مغشوشة لا تثبت أمام أحداث الزمان. وسنة الله أن الإيمان بالله ومحاولة اتباع الحق عند رؤية البأس حيلة ومخادعة لا تنفع مع عدل الله ولا تنجي صاحبها من أمر الله.
والقرآن الكريم ليس هو حدثا تاريخيا في الحياة ظهر ثم مضى واختفى مخلفا وراءه آثارا وبقايا وإنما هو معايشة ومواجهة لهذه البشرية في كل جوانب حياتها إلى يوم القيامة كما أنه ليس آراء ونظريات جامدة ومجردة إلا عند الذين فقدوا وعيهم وحسهم الإنساني بل هو حقائق وأحكام لا تعرف المحايدة في شيء، وهو المصدر الذي سيبقى يمد الإنسان بمقومات الحياة بحفظه لمدخرات الأمم وتجاربها الحضارية وهذا ما غاب عن الذين يجادلون في امكانية انبثاق الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. عن القرآن.
وأن التباين الحضاري بين الأمم لم يأت عبثا وجزافا وإنما كان نتيجة تفاوت في فهم سنن التحضر والتمدن. وكثير من الأمم المعاصرة تسعى إلى الإنشاء المدني والبناء الحضاري دون الاهتمام بقانون الأولويات ويهمل الجزئيات الصغيرة المتناثرة في الحياة ويحسبها غير ذات قيمة حضارية وتريد تخطي الأولويات والقفز فوق الجزئيات وفي القوافي قوة للقوادم وحتى ظاهرة سقوط الحضارات تبدأ أمراض وعلل صغيرة تفكك الجزئيات.. وقد تسقط الجرثومة الصغيرة الأشجار الباسقة كما تهلك الفيروسة الأبدان القوية العظيمة، ولعل علاج هذه الجراثيم الصغيرة أصعب من علاج الجروح والكسور الظاهرة الكبيرة في الأجسام والأبدان ولذلك يبدو أنه مهما نبغ النابغون في بعض العلوم والفنون وجمعوا الثروات وكدسوا المستوردات فإنهم لن تقوم لهم قائمة حضارية إلا بإيتاء البيوت من أبوابها وفقه سنن الله في النفس الإنسانية التي هي مناط الأمر كله وذلك بالرؤية الشاملة للإنسان أولا ثم ادراك الغاية من وجوده والهدف من حياته. والمنهج الذي يجب أن يتبع في هذا السبيل لتحقيق غاية الإنسان من الوجود هو أن تفقه سنن الله بالرجوع إلى القرآن واستقراء سنن الله فيه من خلال تاريخ الأمم الخالية، ومعرفة طريقة تعامل هذه الأمم مع حقائق الوجود وموقفها من الأنبياء والرسل. ودعوات الحق وأحكام العدل وما مصير تلك الأمم والأقوام وكيف سادت ثم بادت؟ وأين أصابت وأين أخطأت؟ وما مدى صلتها بالله في كل هذه التقلبات بين العز والتمكين والذل والهوان والسعادة والشقاء.. والقواعد المستخلصة والنتائج المتوصلة هي السنن الثوابت التي لا يغيرها الزمان حين يغير الإنسان والمجتمعات، ولهذا فإن أية نهضة حضارية لابد أن تولد وتتم في الظروف التي ولدت وترعرعت فيها الحضارات الأولى، وهذا هو الذي عبر عنه السلف الصالح في الأثر أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها. وما زلنا نشاهد ونقرأ في التاريخ أن الحضارات اللاحقة تسقط أو تموت بنفس الأمراض والعلل التي ماتت بها الأولى، وما زالت الشعوب تغمس في نفس المستنقعات التي تنغمس فيها الأولى، وتعاني من نفس المشاكل والأمراض التي عانتها الأولى. وأحسب أن هذه هي الرؤية الحضارية في القرآن التي جاءت وفق سننه تتناول مقومات التحضر تناولا حيا ينبض بالحركة والفاعلية كما تعالج مشكلات الحضارات _التي من أكبرها وأجلها بالاهتمام مشكلة القيام والسقوط _ بفقه سننها بحيث محطة البدء والانطلاق هو الإنسان والسعي إلى تحقيق الغاية الكبرى والوحيدة من وجود الإنسان وهي رضا الله ونيل السعادة في الدارين بعبادة الله دون اهمال الجزئيات والصغريات ومبدأ الأولويات.
فالحضارة هي ولادة داخلية يحس بها المجتمع عندما يعيش ظروفا معينة تسمح بالولادة والنضج. كما لا يوجد الكائن الحي من الفراغ أو العدم فكذلك الحضارة تعتمد في قيامها على بذور احساسية ومقومات صحيحة تضع الأمة على طريق التحضر. ولا يقصد بقيام الحضارة أو ميلادها ظهور أمة فجأة على المسرح الاجتماعي والإنساني في التاريخ. وإنما يقصد بذلك ظهور إرادة بشرية توفرت لديها عناصر الإبداع والانطلاق فسعت إلى القيام بدور حضاري يميزها عن مجرد وجودها الذاتي التاريخي الذي تشترك فيه مع سائر الكائنات الحية الأخرى كالحيوانات والنباتات.
ويمكن أن تقف الأمة في مكانها ومستواها قروناً عديدة دون أن يلحقها أي تحضر. وقد عاشت هذه الوقفة أو الظاهرة كثير من أمم الأرض المتقدمة والمتخلفة ومنها الأمة العربية التي تعيش هذه الحالة منذ القرون الثلاثة أو الأربعة الماضية. وحتى عندما تفرض على الأمة بذورها أو عوامل حضارية خارجية فإنها تبقى قائمة وتظل واقفة إذا كانت هذه البذور لا تتلائم مع واقعها النفسي والاجتماعي وحتى عندما تتوافر كل الشروط المهيأة للولادة الحضارية، فإنه يجب اتخاذ ضمانات معينة حتى تنمو البذور نمواً طبيعيا وتمحص الدوافع الذاتية وتوجه النتائج الخارجية ومن هنا فلا يمكن لأية أمة الزعم بامكانية التحضر تلقائياً أو خارجيا بمعنى أن تشتري أو تستورد أو تسرق التحضر عن الغير لأن هذا اللقيط لن يكون أكثر من مظهر نقص وقتي لا يلبث أن يتلاشى. ولعل هذه الشروط أو عوامل التحضر هي ما يطلق عليها بعض علماء التاريخ الاجتماعي أسس التطور وهو ما يمكن أن نسميه سنن التحضر.
ونؤكد على أن التحضر لا يحدث إلا بالتحولات الداخلية المرتبطة بالتحولات الخارجية مما ينقل الأمة من مرحلة إلى أخرى أعلى في سلم التحضر. ويبدو أن النقلة الحضارية هذه لابد وأن تقوم على أسس ووفق سنن في الكون، وامكانية الأمة الذاتية القائمة على القدرة الذاتية للفرد ثم القوة الاجتماعية الداخلية للأمة ذاتها. ولعل هذه الطريقة أفقه في اتباع سلم الأولويات في عملية الإقلاع الحضاري، ثانيا التصور الفكري أو فلسفة الوجود حيث لم يحدث في التاريخ ميلاد حضارة أو قيام نهضة دون تصور لقضايا الإنسان الذاتية ورسم خطوط وآفاق المستقبل وهو ما يعرف بالمخططات الاقتصادية والتنموية والاستراتيجية في العصر الحديث، وهي التي تبرز من خلالها قوة الأمة النفسية والاجتماعية. ومن هذين المنطلقين قام الإنسان في فترات صحوه يجتاح الصعاب ويبني الحياة بناء قويا واثقا من نفسه وقدرته بعيدا عن كل المصالح الذاتية والغرائز الأنانية الهابطة. وهذا لا يكون إلا بالعقيدة الصحيحة التي تكفل الحياة الهنيئة السعيدة للإنسانية. والعقيدة شيء داخلي قائم في القلب الذي هو موطن الإيمان والإيمان سر السعادة الحقيقية التي هي سعادة النفس في غدوها ورواحها في نومها ويقظتها. وهذا لا يتوافر إلا بالإيمان الذي هو تصديق وجزم بوجود إله مدبر وحكيم ولعل هذا هو مفتاح السر الذي فقدته البشرية في فترات انحطاطها وظلامها. وإذا كانت الأمم وضعت لنفسها قانونا يضبط شئونها وينظم حياتها فليس هذا إلا تعبيراً عن أهمية الأخلاق في حياة الشعوب وازدهار حضارتها وتماسك مجتمعاتها لأن سلطان الأخلاق أقوى من سطوة القانون على النفوس، لأن الأخلاق قانون داخلي وخارجي معا، ويبدو مؤشر الخطر والسقوط يظهر في الأمة ويستفحل عندما يضعف فيها القانون الأخلاقي وتكثر الضوابط الاصطناعية من أجل استمرار سير الدولة وتماسك الأمة. وتعد ظاهرة كثرة القوانين وتشديد حراسة الشرطة في الدولة علامة مرضية تسير بالأمة والمجتمع نحو الانهيار والتفكيك والسقوط.
والمجتمع الصحيح هو الذي يحتل فيه القانون الدرجة الثانية بعد الأخلاق وترتبط هذه الأسس بتوفر عنصر آخر ضروري في حياة الأمم وهو الحرية لأن فقدها يؤدي إلى ظهور اللا مبالاة وعدم تحمل المسؤوليات وكثرة المطالبة بالحقوق واغفال الواجبات مما يفقد التوازن في حياة الناس ويؤدي إلى انتشار الظلم الذي يقتل ارادة الأفراد والجماعات ويحول دون ظهور الأبطال والعلماء والمصلحين والزعماء. ومن المستحيل حتى التفاؤل بوجود قادة في هيمنة الظلم والحرمان وغياب الحرية والاستقلال. لأن الإنسان المبدع البناء لا يبدع ولا ينشىء إلا إذا كان حراً في ذاته وفي مجتمعه ومسؤولا مسئولية داخلية نابعة من ذاته وعن اقتناعه بما يصنع بتأثير إيماني عميق قائما على أسس عقيدية تجيبه على التساؤلات في الوجود، وتكون له نظرية الحياة حكمة وجوده. وبهذا التصور في الأمة يوجد الإنسان القادر على التأليف بين أبناء الأمة وإقامة الحضارة لتحقيق غاية الوجود الإنساني وهو المعيار الذي به تقوم الحضارات وتسعد الأمم وتستقيم دون انحراف، والعلم بهذه الحقيقة الكبرى هو العلم بدين الله والعلم بسننه في الكون وهو العلم أيضا بخواص المادة الذي يعين على استخلاص ما سخر الله للإنسان من طاقات السماوات والأرض واستخدامها في عمارة الأرض، كما هو معروف في سنن الله في الحياة البشرية التي يقوم على أساسها المجتمع الصالح.
وليست استخلاص الطاقات الكونية المادية هي أهم ما يقوم به الإنسان في سبيل التحضر ولو وصل الى القمر أو المريخ.. وإنما الأهم من ذلك هو الغاية التي تسعى إليها الحضارة والأسلوب الذي تسير عليه جانبها المادي والمعنوي في توازن واستقامة، فالقيم المعنوية والنظم العادلة وحدها لا تملأ المعدات الخاوية إن لم يكن هناك خبزا، ولا تسير السيارات والقطارات والطائرات إن لم يكن هناك قوة وقود، والإنسان بدون القيم المعنوية يهبط الى أسفل السافلين في الحياة الحيوانية ويعيش عيشة الضنك والشقاء ولعل الحضارة الغربية المعاصرة هي عنوان هذا الانحراف والانزلاق.
ولقد قامت الحضارة الإسلامية على أعظم قدر من القيم تقوم عليه حضارة في تاريخ البشرية وعلى أقل قدر من المظاهر المادية التي كانت مجموعة من الخيام وبيوت الطين وبساتين النخل ومجموعة من الخيل والابل والأغنام والسهام والسيوف ولكن هذه القيم صنعت رجال الحضارة الذين استطاعوا أن يعرضوا النقص المادي بفضل البناء العقيدي للإنسان والتصور الفكري للحضارة. وكل الحضارات الثاوية لم يستطع الكم الهائل من الانتاج المادي الذي وصلت اليه أن يعوض التخلف الروحي والمعنوي وتحقيق التوازن الحضاري الذي يؤدي فقده إلى الانهيار والسقوط، ولعل هذه القوة التي انطلقت بها الحضارة الاسلامية في اعمار الأرض عمارة مادية ومعنوية من صناعة وتجارة وحركة علمية وحركة جغرافية اكتشفت بها مجاهيل الدنيا وحددت الحدود والمواقع التي كانت أساس الاكتشافات الغربية في القرن التاسع عشر، وبهذا وغيره من الحقائق والأسرار استطاعت الحضارة الإسلامية الصمود أمام عاديات الزمان وظروف الدهر الداخلية والخارجية واستحال على عوامل الهلاك افنائها لأنها الحق والحق لا يفنى.