تحليل الحكمة البارعة ( الشعر في العلماء يزري )
أ.د. محمود بن يوسف فجّال
المستشار في وزارة الشؤون الإسلامية - السعودية
قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد ( ت 286هـ ) : « دخل رجل على الشافعي فقال : إن أصحاب أبي حنيفة لفصحاء » . فقال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ( ت 204هـ ) رحمه الله :
فلولا الشِّعْرُ بالعُلماءِ يُزْرِي *** لكنتُ اليومَ أَشْعَرَ من لَبِيدِ
ولبيد رضي الله عنه أحد الشعراء الفرسان ، وواحد من أصحاب المعلقات ، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ، وحسن إسلامه ، كان فصيحاً كريماً ، نذر ألا تَهُبَّ الصَّبا إلا نحرَ وأطعم .
وقال المبرد كما في معجم الأدباء ( 17 : 312 ) : « كان الشافعي من أشعر الناس وآداب الناس وأعرفهم بالقراءات » .
وكلمة ( يزري ) بمعنى : يعيب ، يقال : زرى عليه إذا عابه .
والشعر له حالتان : حالة مذمومة ، وحالة مأذونة .
وذمُّ الشعر ليس لكونه شعراً ، ولكن لِما حفَّ به من معانٍ وأحوال مذرية ومشينة ، وكان النقاد يعدون جمال الشعر في مبالغاته وإغرابه ، حتى قيل : « أحسن الشعرِ أكذَبُهُ » .
ومن هنا في نظرهم يقوى الشعر ويَعْذُب ، والشعراء يحرصون على القول الخلاب ، الذي يَأْسِرُ النفوس ، ولا يهمهم الصدق فيه ، لذلك قال تعالى عنهم في آخر سورة الشعراء : (( والشعراء يَتَّبِعُهُم الغَاوون ، ألم ترَ أنَّهم في كل وادٍ يهيمون ، وأنَّهم يقولون ما لا يَفْعَلُون )) ؛ لأن فنونهم التي برعوا بها هي الهجاء ، والاعتداء على الأعراض ، والنسيب ، والتشبيب بالنساء ، والمدح رغبة في العطاء ، وإن كان الممدوح لا يستحق المدح ، وذمّ من يمنعُهُم وإن كان من أهل الفضل ، وربما ذمُّوا من كانوا يمدحونه ، ومدحوا من كانوا يذمُّونَهُ ، ويتفننون في المبالغات والمستحيلات فيَعْذُبُ شِعْرُهم .
فهم كما وصفهم الله تعالى كالإبلِ الهائمةِ في الأودية الملتوية ، رغبة منهم في جلب القلوب ، وإن كان في الشيء الكاذب والسَّراب ، لذلك يقولون ما لا يفعلون .
حُكِيَ أنّه اندسّ أحد المهرجين المحتالين في زُمْرة الشعراء عند ملاقاة بعض الخلفاء لينشدوا الشعر في حضرته ، ويحوزوا على الهبات ، وحاجب الخليفة يعرف الشعراء ، وأنكر هذا المحتال المندس فيهم ، فقال : هؤلاء الشعراء وأنت لست منهم ، فقال : بل أنا من الغاوين ، فاستعذب قوله واستلطفه وتركه معهم .
والإمام الشافعي رحمه الله يقول : « ما أردت العربية إلا للاستعانة على الفقه » .
وشعر الشافعي نماذجُ من شعرِ الحِكْمة والوعظ والإرشاد ، وقد طوَّع الشعرَ والبيانَ لخدمة هذا المقصد النبيل من العلم والفقه ، والشافعي رحمه الله عنده أنّ الكلمة أمانة ، واللسان كثيراً ما يورد صاحبه المهالك ؛ لذا تجده يقول :
لا خيْر في حشْوِ الكلا *** م إذا اهتديتَ إلى عيونِهِ
والصَّمْتُ أجملُ بالفِتَى *** من منطقٍ في غَيْر حِينِهِ
وعلى الفتى لطباعِه *** سمةٌ تلوحُ على جبينِهِ
ويقول في حفظ اللسان :
احفظْ لسانك أيها الإنسانُ *** لا يلْدَغَنَّك إنه ثعبانُ
كم في المقابِرِ من قَتِيلِ لسانِهِ *** كانت تَهابُ لقاءَه الأقْرَانُ
فالإمامُ الشافعي رحمه الله أرسى في شعره قواعد الأخلاق الكريمة التي حضَّ عليها الإسلام لحفظ اللسان ، وغضِّ البصر والتسامح والمعاملة مع الناس بالمعروف ، كما يدعو إلى العفّة والطهارة وحفظ الأعراض .
فمن هنا قال : بأنه ( يزري ) على حسب نظرة بعض النقاد للشعر في قوله : « أحسن الشِّعر أكذبه » .
وكان الأصمعي يرى أن الشعر إذا دخل في باب الخير لانَ ( أي : أصابه ضعف ) .
ولا يقصد الشافعيُّ أنه يُزْرِي على إطلاقه ، إذ كيف يعتقد ذلك وهو شاعر حكمةٍ ، لم يؤثر عنه أنه لَحَنَ ، وكان شاعراً بارعاً جمع البيان والحِكْمة ، وقد صحَّح عليه الأصمعي شعر الهذليين .
وبعد أن ذمَّ اللهُ شعراءَ السُّوءِ والمشركين ، استثنى فريقاً صالحاً وأَذِنَ لهم بالشعر فقال سبحانه : « إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذَكَرُوا اللهَ كثيراً وانتصرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلموا وسيَعْلم الذين ظلموا أيّ مُنْقَلبٍ يَنْقَلِبُون » .
وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الشعر فقال لحسان بن ثابت رضي الله عنه في دفاعه عن الإسلام ونبي الإسلام : « كلامك أشد عليهم من وقعِ النَّبْل » وقال له مرة أخرى صلى الله عليه وسلم : « قلْ ومعك روح القُدُس » .
والخلاصة أنَّ الكذب في قول الشعر والمبالغات والمستحيلات والإغراق في التشبيهات والخيالات مذموم في الإسلام وعند العقلاء ، وهذا غالب ما يكون في شعر الشعراء الجاهليين وغيرهم ، وقد يعدُّه النقاد من عيون الشعر وأبلغه .
اسمع إلى قول قيس بن الملوح وهو يقول في ليلى :
وقالوا : لو تشاءُ سَلَوْتَ عنها *** فقلت لهم : فإني لا أَشَاءُ
فقالوا : أينَ مسكنُها ومنْ هِي *** فقلتُ : الشمسُ ، مسكنها السماءُ
ولو أجاز الشافعي لنفسه هذا اللون لكان أشعرَ الشعراءِ على الإطلاق ، ولكنَّه جعلَ لشعرِهِ قُيُوداً وحُدُوداً ولم يكن الشعرُ عنده مقصوداً لذاته ، بل لغايةٍ ساميةٍ وهي الحِكْمة والجد والفضيلة .
والأهمُّ من ذلك الانصرافُ لتلاوة القرآن وقراءةُ الحديث والتبحرُ في الفقه ، وهو القائل :
كلُّ العُلُوم سوى القرآنِ مشغلةٌ *** إلا الحديث وعلمُ الفقه في الدِّينِ
العلمُ ما كان فيه قال حدَّثنا *** وما سِوى ذاك وِسْواسُ الشياطينِ
وأخيراً أرى أنّ هذه الكلمة ( والشعر بالعلماء يزري ) التي انحدرت من لسان الشافعي رضي الله عنه كلمة صدق ، وهي لا تغضُّ من قيمة الشعر الحكيم ؛ لأن ألمح من ثناياها التقويم والتثقيف لما ينبغي أن يتحلَّى به الشاعر من صدق وإخلاص ، ونفع للأمة ، والتَّنَزه عن المجون والثرثرة ، وهو أسلوب رصين هادف من الشافعيّ ، ولفتة بارعة ، وإضاءة مشرقة ، ولمحة فارهة ، ودرة ثمينة ، وهو الذي ينثر نفيس الدرر ، ويمنح الكلم الغرر ، لمن يهوى العلوم والحكم .هذا والله أعلم .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .